المهم لقد وجدت أن خير ما أنفق فيه ملالتي هو النظر إلى الوجوه، وأخص بالنظر وجوه السيدات طبعا. ولم أجد مكانا خيرا من السينما أذهب إليه لأجد المعرض مليئا بالمعروضات، فالسيدات - لسر أجهله - يبذلن أقصى جهدهن في التزين وهن ذاهبات إلى السينما، وكأنهن يجهلن أن الظلام سيغطي كل شيء يضعنه على وجوههن. على كل حال كان هذا من حسن حظي أنا؛ فقد كنت أحب عنايتهن هذه بوجوههن.
وفي يوم دخلت السينما وجلست بجانبي فتاة، بل سيدة يبدو أنها في أول عهدها بالزواج؛ فهي كالوردة أشرفت على التفتح، النضارة تفوح منها كأنها عبق وهبته لها السماء، كل شيء فيها جديد. حتى لقد ذكرتني بملالتي وكيف أني قديم قديم، وأفكاري قديمة، وكل ما يتصل بي قديم. كم نحن متناقضان! هي في جدتها وأنا في قدمي. كيف يمكن أن يلتقي القديم والجديد بهذا التقارب؟ متجاوران على الكرسي، لو لم أكن أرتدي جاكتة ذات أكمام للامست ذراعها ذراعي.
وفجأة ومضت في ذهني فكرة، أبعدتها فألحت علي: لماذا لا أقبل هذه الفتاة الجالسة إلى جواري؟ ماذا سيحدث؟ واحدة من اثنين؛ إما أن يلقوني في السجن. وما ضر لو فعلوا؟ كم من مساجين هناك ذهبوا إلى السجن بجرائم لا لذة فيها ولا طرافة ولا تجديد! أما أنا فسأذهب إلى السجن وقد حطمت عن نفسي الملالة الأكبر، الذي أعيش فيه. وهل أنا الآن طليق؟ مرحبا بالسجن ولو أرسلوني إليه. وإما أن يقودوني إلى سراي المجاذيب، ومرحبا بهذا أيضا. أرى هناك البشرية المستريحة قد طرحت عن نفسها قيود العقل، وارتاحت إلى الحياة تقطعها لذة وأحلاما وأوهاما وخيالا. سأكون سعيد الحظ لو أنهم ألقوا بي إلى سراي المجاذيب.
ودون أن أمعن في التفكير أكثر مما فعلت ملت على السيدة التي بجانبي، وطبعت على خدها قبلة مطمئنة هادئة، ثم اعتدلت وجلست.
ومدت السيدة يدها على مكان القبلة في ذهول هادئ أول الأمر، ثم فجأة استعادت يدها وكأنما وجدت على خدها أثر القبلة مجسما، وكأنما تأكدت أن هذا الذي حدث حقيقة لا خيال ولا وهم. وإذا هي في كل ثقة تتجه إلي وتصفعني قلما، لم أكن محتاجا إلى أن أضع يدي بعده لأتحسس أثره؛ فقد كانت النيران تلهب وجهي، وكان يمكن أن ينتهي الأمر عند ذلك. قبلتها قبلة فصفعتني قلما ... فنحن متخالصان لا لنا ولا علينا. ولكن ماذا تفعل في الآخرين، هل يمكن أن يسكنوا؟ أيضيعون هذه الفرصة الذهبية في كسر ملالتهم وتسلية أنفسهم؟ أفندي قبل سيدة، وسيدة صفعت أفندي، أين يجدون فرصة كهذه؟ قام الرجل الجالس خلفنا: أنت قليل الأدب يا أفندي.
فوكزه الجالس إلى جانبه وسأله: ماذا حصل؟
فحكى له الذي حصل، فقال السائل: قلة حياء والله، لا يمكن أن نسكت.
فتقدم الرجل الجالس بجانب الست فسأل وأجيب؛ فثار؛ النهاية سحبوني إلى القسم. - هل قبلت الست؟ - نعم. - ونعم أيضا! - أتريدني أن أكذب؟ نعم قبلتها. - ألا تعرف أن هذه جريمة؟ - جريمة! - نعم جريمة. - على الشاشة أمامنا في السينما كانت القبلات على قفا من يشيل، ولم نر أحدا يقول جريمة. - هل تريد أن تدعي الجنون؟ - هل فيما أقول غلط؟ - لا، لا غلط. يا شاويش ضعه في الحجز.
وتم المحضر ورئي لاستكمال الشكل أن أعرض على طبيب أمراض عصبية، وكأن الطبيب كان يدري ما تهفو إليه نفسي، فما هي إلا أن انتهى من فحصه حتى كنت نزيلا بمستشفى الأمراض العقلية.
لا تسلني كم من الوقت أقمت هناك؟ فما عرفت في حياتي أسعد من هذه الفترة التي عشتها بلا عقل ولا مسئولية ولا ملل.
Unknown page