تلك نواح من علاج صعوبة اضطراب الإعراب، أضعها بين يدي الباحثين الصادقي الرغبة في جعل اللغة مادة للتفاهم الحيوي، لا يبذل فيها المتفاهم عناء وجهدا هو أحوج إلى أن يوفرهما لما يريد أن يقوله وينقله من المعاني والأفكار، ولا تنسوا ما كررته من أني إنما أتحدث بهذا إلى الذين ليس عملهم في الحياة الاشتغال باللغة وأوجه إعرابها من سائر الطبقات العالمة والعاملة في الشعب.
ثم ننتقل بعد ذلك إلى النظر في الصعوبة الثالثة، وهي: (13) اضطراب القواعد
إذ إن أساس القاعدة الضابطة هو الاطراد والعموم، الذي يهون به على الذهن تمثل الأصل الشامل تمثلا يرجع إليه في التطبيق والاستعمال. فإذا ما كانت القاعدة ذات شعب وصور، ثم ذات خلاف وآراء، فقد فقدت أخص صفاتها في الضبط الجامع، وانتشر الأمر، واللغات بعامة قد تكثر قواعدها وضوابطها، لعدم سهولة تركيزها، نظرا لما خلفته فيها المرونة ومسايرة الحياة ومطاوعة اللسان من تغيير على ما يتبينه من ينظر في المنهج اللغوي نظرا محققا.
لكن لغتنا الفصحى فوق ما لها من هذه الكثرة في القواعد، تزيد على ذلك بما فيها من اضطراب القاعدة في الكلمة الواحدة أو التعبير الواحد، لتعدد الصور والمذاهب والخلافات التي تصل إلى حد التباين العجيب، وحسبنا مثلا لذلك أن «لم» وهي شهيرة في عمل الجزم الخاص بالأفعال، على ما نعرف لا يتسق فيها ذلك ولا يثبت، بل يتفرق فيها القول تفرقا يتناول كل احتمال ممكن، فهي أحيانا لا تجزم حملا لها على ما أو لا، فيرفع الفعل بعدها، ثم هي حينا تنصب في لغة، ويقرأ في القرآن: «ألم نشرح»، فيما نقلوا.
38
وتخريجاتهم لهذا النصب قد ضعفوها هم، كما في «المغني»،
39
فيكون الفعل بعد «لم» مجزوما أو مرفوعا أو منصوبا، ولم يبق إلا أن يخرج الفعل عن ميزته فيجر بعد «لم»!
وهذه الأحوال كلها تعلم في كتب النحو التي يربى عليها معلمو لغة الأمة، فلا أقل من أن تزعزع تلك الاضطرابات صورة القاعدة وثباتها في نفوس أولئك المعلمين! وقدروا أن الأمر لا يقف عند وجود مثل هذه الآراء في كتب النحو، فيكون نقلا تاريخيا فقط، بل نحن نجد هذا في الاستعمال نفسه إذ نقرأ للشافعي - رضي الله عنه - في «الرسالة» نحو سبعة عشر استعمالا لم يجزم فيها ب «لم»، منها بضعة عشر لم يحذف في آخرها حرف العلة من المضارع المعتل، فقال: «لم يرى»، ومنها بضعة مواضع لم يحذف حرف العلة من المضارع الأجوف، فقال: «لم يحيل» مثلا، (وقد تتبعها الناشر الفاضل وأوردها في فهرست الفوائد اللغوية، ص659)، ولو قد نقلت إلينا النصوص القديمة المتحراة بكتابة عصرها لرأينا من أمثال هذه الظاهرة شواهد قوية، على فرق ما بين اللغة المستعملة وبين هذه القواعد التي اشتهر تعلمها، ولاتضح تصورنا لواقع الحياة اللغوية تصورا يجنبنا غير قليل من الأخطاء في منهج درسها. •••
وما بنا أن نعلل هذا الاضطراب في القواعد، فتلك مسألة تبحث في غير هذا الموضع، وإنما نريد لهذا الاضطراب تدبيرا عمليا يهون المهمة التعليمية، ويعين على استجابة اللغة لحاجات الحياة؛ لأننا نجد آثار هذا الاضطراب للقواعد في كتب النحو المدرسية على أبسط صورة لها، وبعد التيسير والإحياء، وما إلى ذلك، وخذوا لذلك مثلا: باب الاستثناء الذي كان التيسير أن يعد في «الصيغ»، ولم تعرف كيف يكون الأمر في أحواله المختلفة وأبوابه الكثيرة المتبعة ، فإذا كتاب النحو المدرسي الذي ألفه جماعة منهم صاحب الإحياء نفسه في الجزء الأول منه لتلامذة السنة الأولى الثانوية، يذكر بضعة قواعد لبعض أحكام الاستثناء وأحواله، يلقاها أولئك الصبية الذين تعرفون أنهم يبدءون مرحلة هذا التعليم الثانوي في العاشرة وما حولها، وليس الأمر واقفا عند كثرة القواعد بكثرة أدوات الاستثناء، وأنها تكون حينا أسماء وحينا أفعالا وحينا حروفا، بل هو كذلك تتبع للأحوال المختلفة في الأداة الواحدة أو الأدوات المتشابهة.
Unknown page