أننا نعيش بلغة غير معربة ولا واسعة، حين نتعلم لغة معربة، وافرة الحظ من الإعراب، واسعة الآفاق مع ذلك، فكأننا بهذا نتعلم لغة أجنبية وصعبة؛ إذ إننا نعيش ونتعامل ونتفنن، بل يفكر مثقفونا بهذه العامية، ثم ها هي ذي العامية تتابع زحفها الجريء على مجال حياة تلك الفصحى، فقد اعترف بها رسميا في بلاط صاحبة الجلالة الصحافة، كما قبلت على المسرح، وهي بهذا ومثله من الانتصار المتصل تحرج العربية وتنفث حولها جوا نفسيا وعمليا مسمما.
الثاني:
أن هذه الفصحى الواسعة المعربة، مع ثقل إعرابها علينا، لا تسهل ضبطه بقاعدة، بل يسوده الاستثناء، فتتعدد قواعده وتتضارب، فالفتحة تنصب وتجر، والكسرة تجر وتنصب، والحذف يعرب، والإثبات يعرب، والسكون يبني ويعرب، والفتح، والحركات كلها كذلك، والياء تنصب وتجر، و... و... إلخ ما نعرفه من هذه المتقابلات التي تجعل التلميذ يعرف الإعراب وحركاته، ثم إذا هو يقرأ حوارا فيه اثنان، ومؤنثات، ومذكرون، فلا يجد في الحوار إلا خلاف ما عرفه من حركات الإعراب، وهكذا يرتبك ويرى أن المدى بعيد، والأزمة شديدة، وهذا السبب هو ما سميناه اضطراب الإعراب.
الثالث:
أن هذه الفصحى، فيما وراء إعرابها المضطرب، وسعتها، وانتشار قواعدها، باختلاف الكلمات، تعود فلا تستقر على حكم وقاعدة في الكلمة الواحدة، أو التعبير الواحد، فيجوز فيه النصب والجر، أو يجوز فيه الرفع والنصب والجر جميعا، وهكذا يتمادى الاضطراب، ويزداد التزعزع في الكلمات المختلفة، ثم في الكلمة أو التعبير الواحد بنفسه، وهذا هو اضطراب القواعد.
تلك هي الصعوبات الثلاث، أو بالأحرى هي أظهر هذه الصعوبات، وبالنظر في كنه هذه العقبات وحقيقتها، يمكن البحث عن: (10) تدبير لحل هذه الصعوبات
ويتضح جليا أنها كلها في جسم اللغة وكيانها، فالإعراب طابعها، واضطراب الإعراب صدى تشعبها، واضطراب القواعد وتعدد الآراء في الكلمة والتعبير الواحد، من سعتها وتفرقها، وكلها عقبات في سبيل التعلم، تكد الطاقة الحيوية للمتعلم الناشئ، بل هي تحول بينه وبين التمثل الواضح لهذه اللغة، فيظل كبارنا يعانون من ذلك بلاء مخزيا، ويبذلون جهدا ضائعا، وما أشك في أن الموظف الكبير الذي كان يذيع في الراديو فيقول: «بدا لوزارة» - كذا بالضم - قد تعلم اللغة العربية، بل تعلمها بضعة عشر عاما، واضطرب في ذهنه خلالها، جر الكسرة، وجر الفتحة، أو اضطربت في ذهنه أشياء متدافعة متعارضة يلقاها بنفس منصرفة بل كارهة وحانقة، إن لم تكن وراء ذلك محتقرة مشمئزة، وثائرة متمردة.
وإذا ما قدرنا أن هذه العقد جوهرية ذاتية، فقد بدا أن حلها يمس الجوهر والكيان لا بد، ويحتاج إلى عمل جراحي أو ما يشبهه، وإلا فتلك الحلول السطحية والمسكنات الظاهرية لا تحدث أثرا يذكر، ولا تسعف الفصحى في صراعها مع العامية بسلاح ولا ذخيرة، ولا يعلم إلا الله ما يكون المصير إذا جمحت جامحة اجتماعية تقول بالحرية المسرفة التي سمعنا صدى صوتها في الجيل الماضي!
فإذا ما كان هذا العمل الجوهري الذي نرجوه، سيجرى بمباضع معروفة من أصول نحاتنا، فقد أعان الفصحى على مرضها، وأثبتت أن لها من الحيوية ما يخلصها من هذه الأزمة الخطرة، وذلك - ولا مراء - خير لها وأجدى عليها، ونحن بعون الله محاولون هنا أن نستعمل تلك الأسلحة نفسها، وأن نستعين على علاج العربية بحيويتها هي لا بنقل دم، ولا إعانة بغريب عن جسمها أو عن نظامها. •••
وعلى هذا الأساس سنجد أنه لا يد لنا بعمل يمس العقدة الأولى وهي الإعراب، فسندعها هنا كما هي، وتبقى العقدتان الأخريان، وهما ما نأمل أن نصل فيهما إلى شيء تخف به تلك المصاعب، على مستعملي هذه اللغة في حياتهم، من غير المختصين بدرسها، والمتعمقين فيها. فإنما نريد أن يجد الشخص العادي إذا تعلم ما يزيل أميته، ثم المتخصص في غير اللغة والأدب من طبيب ومهندس وعالم طبيعي ورياضي ومن إليهم، نريد ليجد هؤلاء جميعا، وتجد الصحافة والتحرير على اختلاف صوره، والتعامل على تنوع طرقه، لغة أقل عقدا في اضطراب الإعراب وفي اضطراب القواعد، قدر ما تستطيع أن تسعفنا به الأصول النحوية التي سنعتمد عليها لا على غيرها.
Unknown page