لكن الذين قصدت إليهم بحديثي الذي أغضبك، قلة قليلة بضاعتها كلام، هي قلة تمسي في كلام وتصبح في كلام، فيرفعهم كلامهم هذا إلى صدارة ملحوظة، لقد قلت لأحدهم ذات يوم، وكنت على صلة به تجيز مثل هذا القول، قلت له: ترى لو جمعنا كلامك كله، الذي ظللت تمسي به وتصبح عاما بعد عام، فكم رغيفا من الخبز يخرج منه للجائعين؟ كم ثوبا ننسجه منه لمن ينقصهم الكساء؟ كم مترا من الطريق نرصفه؟ وكم جدارا نبنيه؟ أليست هي يا صاحبي طواحين تملأ أوعيتها هواء، فيخرج لنا من عيونها هواء، ويظل الجائع في حاجة إلى الرغيف، ويظل العاري في حاجة إلى الثوب، ويظل الطريق المتهدم ينظر من يرصفه، والجدار من يبنيه؟
ولو كان أولئك الذين يملئون أوعية الطواحين هواء لتخرج للناس هواء، يقصرون مشغلتهم على أنفسهم، لتركناهم وشأنهم حتى ولو رفعتهم طواحينهم تلك إلى الصدارة الملحوظة، لكنهم يجرون الفلاح والعامل وربة البيت، والطبيب والمهندس والمدرس، وراصف الطريق وباني الجدار وخابز الرغيف، يجرونهم من ميادين العمل؛ ليشهدوا الطواحين وهي تعبأ بالهواء، ثم وهي تلفظه هواء، وينصرف المتفرجون بعد الموكب: لا الجائع قد طعم، ولا العاري قد اكتسى، ولا المريض قد برئ، ولا الجاهل قد زالت عنه غشاوته ... وقلب المأساة يا صاحبي هو في أن تكون هذه «الشطارة» سلما للنجاح، فلماذا غضبت يا صاحبي، حين هممت أتحدث إليك عن هذه القلة الكاسبة بلا عمل؟ أهي النرجسية البغيضة قد أبت عليك، أن يشار فينا إلى عيب يعاب؟
يا صاحبي هذا وطنك ووطني، هذا بيتك وبيتي، فمن منا ينافق من؟ لو كنا نزلاء بيت لا نملكه، لنافقنا رب البيت ابتغاء حياة آمنة، لكننا نسكن بيتا نحن أصحابه، فهل نسكت عن جدار تشقق أو باب فسدت مفاصله؟ أم تريدني أن أقسم لك بالله العظيم - أولا - بأن البيت بيتنا لكي تؤمن حقا بأننا مالكوه؟ إذن فأنت تريد من يقسم لك هذا القسم العظيم، بأن الشمس تشرق في الصباح وتغرب في المساء، وأن المربع قائم الزوايا والمثلث ذو ثلاثة أضلاع!
هي قلة قليلة منا تكسب مناصبها بالكلام، وأما الكثرة الكاثرة فينا فلا تعرف لقمة العيش طريقها إلى أفواههم، إلا بعد عمل كادح، وكل ما خشيته وأخشاه، هو أن يكون لتلك القلة الكاسبة، أثرها في صرف الناس عن مواقع العمل، وأن الوطن ليكسب كسبا كبيرا، لو أن تلك القلة نفسها ارتدت هي الأخرى إلى ميادين عملها، فكلهم كان في الأصل صاحب عمل منتج، ثم تركه ليعيش حياة الكلام، لما أن وجدها أجدى عليه وعلى عياله، منهم أستاذ الجامعة والمهندس والمدرس والطبيب والعامل، ولست أعقل أن يكون أستاذ القانون - مثلا - أو أستاذ الاقتصاد أصلح في أي مكان آخر منه أستاذا للقانون أو الاقتصاد، لست أعقل أن يكون للطبيب مكان أنسب له، من مكان يطب فيه للمرضى، وكذلك قل عن المهندس والمدرس والعامل، وأن هؤلاء جميعا ليعلمون في بواطن نفوسهم، أنهم قد تركوا المواقع الأنفع، ليأخذوا المواقع الألمع، فهم كغيرهم من البشر يريدون البريق.
لست من رجال السياسة، ولا أصلح أن أكون؛ فحياتي خطوطها مستقيمة، والسياسة - هكذا يقال لي - خطوطها تنحني؛ ولهذا فقد لا تكون لي العين المبصرة، التي ترى الحكمة في وجود هؤلاء النفر حيث هم، إذ قد تكون في ذلك «سياسة» لم تتهيأ لي القدرة على إدراك خبثها، ولكني إذا ما سئلت: وماذا تريد؟ لأجبت بلغة الخطوط المستقيمة قائلا: أريد أن يثبت كل في موضعه من دنيا العمل، وإذا أنت وضعت في المكنة تروسها وصواميلها ومساميرها، كل واحدة في مكانها الصحيح، دارت المكنة على أكمل وجه مستطاع، وبهذا نجد الزوائد التي تعيش وتعلو على كد سواها.
مختلفان نحن يا صاحبي في طريقة النظر، ولا بأس في أن نختلف:
قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا
صدق الله العظيم.
الرأي المستقل
عندما طرح الحوار: هل تنشأ بيننا أحزاب أو لا تنشأ، اكتفاء بما هو قائم من التحالف بين قوى الشعب في إطار الاتحاد الاشتراكي، أو - بعبارة أخرى - هل نتيح لمجموعات مذهبية أن تقوم، تاركين للمواطن الانتماء إلى أي منها؟ أو نكتفي بمجموعة واحدة كبرى، بحيث لا يجد المواطن أمامه سبيلا للاختيار، اللهم إلا حرية القول داخل تلك المجموعة الواحدة؟ أقول إنه عندما طرح هذا الحوار بين البديلين، خيل إلي أن ثمة حالة ثالثة لم يذكرها المتحاورون، مع أنها قد تكون حالة واقعة بالفعل، ومتمثلة في بعض الأفراد، ألا وهي حالة المواطن الذي تكونت له وجهة للنظر، يستقل بها، فلا هي مما يلتئم مع الأحزاب التي يسمونها ويحددونها قبل أن تنشأ، ولا هي مما تتسق اتساقا كاملا مع المجموعة الكبرى، كما هي قائمة، أفلا يحسن بنا أن نفتح من القنوات ما نضمن به لكل رأي أن يقال وأن يسمع؟
Unknown page