تكلمنا فيما تقدم عن أحكام القرآن كما علمه محمد منذ ثلاثة عشر قرنا، ولكن القرآن دستور مكتوب، ويوجد فرق بين التعاليم المكتوبة والعمل بها في الغالب، وإذا ما أراد الإنسان أن يعلم أهمية هذه التعاليم وجب عليه أن يدرس درجة تأثيرها في الحياة، وحدود هذا التأثير هو الذي تهم معرفته إذن، وهذا لا نستطيعه إلا بالدخول فيما لم نأته حتى الآن من التفصيل: تأثير دين محمد في النفوس أعظم من تأثير أي دين آخر، ولا تزال العروق المختلفة التي اتخذت القرآن مرشدا لها تعمل بأحكامه كما كانت تفعل منذ ثلاثة عشر قرنا، أجل، قد تجد بين المسلمين عددا قليلا من الزنادقة والأخلياء، ولكنك لن ترى من يجرؤ منهم على انتهاك حرمة الإسلام في عدم الامتثال لتعاليمه الأساسية كالصلاة في المساجد وصوم رمضان الذي يراعي جميع المسلمين أحكامه بدقة مع ما في هذه الأحكام من صرامة لا تجد مثلها في صوم الأربعين الذي يقوم به بعض النصارى كما شاهدت ذلك في جميع الأقطار الإسلامية التي زرتها في آسية وإفريقية، ومن ذلك أن أتيح لي أن أركب سفينة نيلية كان فيها أفراد عصابة عربية مقرنين في الأصفاد، ومتهمين بأنواع الجرائم؛ فقضيت العجب حين رأيتهم، وهم الذي خرقوا حومة جميع القوانين الاجتماعية مستخفين بأقسى العقوبات، ولم يجرؤوا على انتهاك تعاليم النبي، وحين شاهدتهم يرفعون تلك الأصفاد عنهم وقت الصلاة ليسجدوا لله القهار ويعبدوه.
وعلى من يرغب في فهم حقيقة أمم الشرق، التي لم يدرك الأوربيون أمرها إلا قليلا، أن يتمثل سلطان الدين الكبير على نفوس أبنائها، وللدين ذي التأثير الضئيل فينا نفوذ عظيم فيهم، وبالدين يؤثر في نفوسهم، ولولا الدين ما حرك ساكن المصريين منذ الثورة الحديثة التي ضرجت مصر بالدماء، وقد تجلت لي صعوبة إدراك الناس لروح الأمم الأخرى من مطالعة الصحف الأوربية التي ذكرت أن ثورة عرب مصر الأخيرة حدثت لينالوا من الحقوق السياسية ما يجهلونه بالحقيقة جهلا تاما، وذلك أن العرب إذ تعودوا الإذعان لأهواء رب، ولم يصعب عليهم الإذعان لوكلائه، وأن الرجل الذي يخاطب العرب باسم الله يطاع لا محالة، ما علموا أنه يتكلم باسم الله حقا، فعلى الراصد المؤمن أو الملحد أن يحترم هذا الإيمان العميق الذي استطاع العرب أن يفتحوا العالم به فيما مضى، وهم اليوم يصبرون به على قسوة المصير.
حقا إن مثل تلك المعتقدات يورث الجموع أوهاما جميلة تعد عنوان السعادة، والجموع تبصر من خلالها نعيم الآخرة الذي لا ترى مثله في هذه الحياة الدنيا، وهي تصونها من الوقوع في اليأس وما يجر إليه اليأس من الفتن الشديدة، ويجب على من يستخف بتلك الأوهام أن يستخف بجميع الأوهام؛ ليكون منطقيا فيزدري المجد والطموح والحب وجميع الخيالات الساحرة الجديرة بالاحترام التي نقضي حياتنا وراء تحقيقها، وهذه الأوهام أعظم عامل في سير الإنسان حتى الآن، والمفكر الذي يكتشف ما يغني الناس عنها لم يولد بعد. (2) الطقوس الدينية في الإسلام (2-1) الفرق الإسلامية
أرى أن أقول بضع كلمات عن الفرق الإسلامية قبل وصف طقوس العرب الدينية الأساسية: يشتمل الإسلام على عدة فرق ككل دين، وبلغ عدد الفرق الإسلامية، منذ أوائل التاريخ الهجري، اثنتين وسبعين فرقة، وأكثر من هذا عدد الفرق الپروتستانية وحدها.
وفرقة أهل السنة وفرقة الشيعة أقدم الفرق الإسلامية وأهمها، فأما الشيعة: فيزعمون أن الخلافة لصهر النبي علي، ويحترمون عليا كاحترامهم لمحمد تقريبا، وأما أهل السنة: فيرون خلافة الخلفاء صحيحة وفق ترتيبهم، ويمثل أهل السنة الفريق الصحيح.
وإذا ما استثنينا تينك الفرقتين رأينا فرقا ثانوية في الإسلام، وأهمها الوهابية التي ظهرت منذ قرن فأقامت دولة قوية في وسط جزيرة العرب، وتزعم الوهابية أنها تعيد إلى الإسلام صفاءه القديم، والوهابيون پروتستان الإسلام في الحقيقة.
شكل 5-1: محراب في الجامع الأزهر بالقاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
والفرس من الشيعة، والعرب والترك من أهل السنة، وأهل نجد من الوهابيين.
وينظر بعض تلك الفرق إلى بعض بعين التسامح، وتصلح الفرق في سورية - على الخصوص - أن تكون قدوة لمختلف الفرق النصرانية، وأنت لا تجد في العالم الإسلامي محاكم مثل محاكم التفتيش ألفت لحمل أنصار فرقة على انتحال مبادئ فرقة أخرى بالحديد والنار، وأنت تجد أساتذة منتسبين إلى مختلف المذاهب يعيش بعضهم بجانب بعض متفاهمين في الجامع الأزهر الذي هو أهم موئل للتعليم الديني في الشرق.
ولنذكر الآن طقوس العرب الدينية المهمة:
Unknown page