186

Hadarat Carab

حضارة العرب

Genres

شكل 8-5: منبر من رخام في الحرم القدسي يعرف بمنبر عمر (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف ).

وليس من الصعب أن يتمثل المرء درجة تأثير تلك الكبائر في صلاح الدين النبيل الذي رحم نصارى القدس ولم يمسهم بأذى، والذي أمد فليب أوغست وقلب الأسد ريكاردس بالأزواد والمرطبات في أثناء مرضهما، فقد أبصر الهوة العميقة بين تفكير الرجل المتمدن وعواطفه وتفكير الرجل المتوحش ونزواته، وأدرك أنه لا يجوز أن يعامل أولئك الحمقى بغير ما تعامل به الوحوش الضارية.

وأكره ريكاردس من فوره على مغادرة فلسطين قبل أن يرى القدس، ولم يكن للحملة الصليبية الثالثة التي قادها ملوك أوربة الأقوياء الثلاثة المتحالفون نتيجة غير بقاء النصارى مالكين لبضع مدن الساحل.

ثم نظمت الحملة الصليبية الرابعة (1202-1204م) بقيادة أمير الفلاندر: بودوان، وعزم الصليبيون في هذه المرة على بلوغ فلسطين بحرا، لا برا كما في الماضي، وأبحروا من ميناء زاره متوجهين إلى عاصمة الدولة النصرانية: القسطنطينية، ولما بلغوها رأى بعضهم أن سورية لا تزال بعيدة، وأن الصليبيين السابقين نهكوها غير تاركين فيها نهابا، وأن كل الصيد في جوف القسطنطينية، فانضم بقية الصليبيين إلى هذا الرأي الصائب، وأخذوا ينهبون ما فيها وإن دخلوها حلفاء.

وكانت القسطنطينية تشتمل في ذلك الحين على ما تركه الأغارقة والرومان من كنوز الفن والأدب، ولم ير صليبيو أوائل القرن الثالث عشر في هذه الكنوز شيئا نافعا يمكن تقديمه إلى قبيلة من أصحاب الجلود الحمر (الپوروج)، فصاروا يحطمون كل ما لم يكن من الذهب أو الفضة أو يلقونه إلى البحر، وصاروا يكسرون التماثيل الرخامية التي صنعها ليزيب وفيدياس وپراكزيتيل، ويتلفون، في يوم واحد، تآليف ديموستين وديودرس، وپوليب ... إلخ. المهمة.

ولم يفكر بودوان وأصحابه في الزحف إلى فلسطين بعد أن شبعوا من الغنائم فنصب بودوان قيصرا؛ وأجاز البابا إينوسان الثالث ذلك مع بيانه أن الصليبيين اقترفوا أفظع الجرائم.

ولا احتياج إلى ذكرنا أن سلطة هذا القيصر الجديد كانت مؤقتة، فلم يكن الصليبيون من غير الهمج العاجزين عن إقامة دولة دائمة وعن غير التخريب، ولم ينشأ عن إقامتهم القصيرة بالقسطنطينية غير إبادة كنوز العالم اليوناني اللاتيني القديم.

ولم تكن الحملتان الصليبيتان، الخامسة والسادسة، من الحملات المهمة، ولم تباليا بالجهاد في سبيل القدس، وإنما ذهب أكثر رجالهما إلى مصر طمعا في الغنائم فاضطروا إلى التقهقر بعد أن أوغلوا قليلا فيها.

وتوجه جيش صغير إلى القدس بقيادة فردريك الثاني الألماني الذي تعاهد هو والمسلمون، فسمح له المسلمون بدخول القدس حليفا، فعاد إلى أوربة مكتفيا بهذه المجاملة الحقيرة.

ومع ذلك فإن الحملات الصليبية أخذت تفقد صبغتها الأوربية الشاملة التي اصطبغت بها في بدء الأمر، فقد قام مقام أخلاط الزمر الأولى، التي كانت تنقض على آسية، بعض السرايا الصغيرة التي ركبت كل واحدة منها متن هواها فلم تبحث عن غير ما فيه الثراء.

Unknown page