Hadarat Carab Fi Andalus
حضارة العرب في الأندلس: رسائل تاريخية في قالب خيالي بديع
Genres
منها الشموس وليس فيها المشرق •••
ولو أبصروا ليلى أقروا بحسنها
وقالوا بأني في الثناء مقصر
وهنا انبعث أبو عبد الله الصقلي الفيلسوف وقال ما تلخيصه: الذي أراه أن شعراء كل قطر من الأقطار أو جيل من الأجيال لا بد من أن يتأثروا بالمحيط الذي يحيط بهم، وأن يصطبغ شعرهم بصبغة ما يرون ويحسون من حولهم؛ فالشاعر الجاهلي أو المتبدي في الجاهلية والإسلام الذي لا تقع عينه إلا على صحراء مقفرة، أو سماء ماطرة، أو وحش كاسر، أو غزال نافر، لم ير ريفا، ولم تغذه رقة الحضر، ولم يشبع من طعام، قد خالط الغيلان، وأنس بالجان، وأوى القفر واليرابيع والظباء، فإنه حري أن لا يقول إلا في جنس ما هو بسبيله من وصف البيد والمهامه والظبي والظليم والناقة والجمل وما إلى ذلك، في قول مونق مشرق واضح الطريقة، لا تعمل فيه ولا كلفة، يوائم أمزجتهم وطبائعهم، ويلائم المحيط الذي فيه عاشوا، والجو الذي فيه درجوا، والفطرة الأولى التي فطروا عليها، والسذاجة التي هي من خاص صفاتهم. وقد يكون لهم مع ذلك الحكمة البارعة، والكلمة الرائعة، والمثل السائر، والموعظة الحسنة مما يبهر أعرق المتحضرين، ويصيب منهم أقصى غايات الإعجاب والإكبار، ولكنه الوحي والإلهام الذي تلهمه الفطرة القوية النقية البريئة، ويؤتي الطبيعة الكريمة ما يؤتي سهوا رهوا، وليس هو بنتاج العقل المسموع، ولا بثمار الملكات المكتسبة.
وبعد، فأما المولدون - وهم الذين تصح المفاضلة بينهم وبين شعراء المغرب؛ لأنهم جميعا تحضروا وعاشوا في رونق النعيم، واعتركوا بالدنيا واعتركت بهم - فالرأي عندي أن يقال: إن الشعر لفظ ومعنى، فأما اللفظ فإن شعراء المشرق - لأن أكثرهم جاور الأعراب وأهل البادية، ولقنوا اللغة منهم، والتصقوا بهم، ونشئوا في أحضانهم، وغذوا بلبانهم - ترى لهم الألفاظ المتخيرة، والديباجة الكريمة، والطبع المتمكن، والسبك الجيد، وكل كلام له ماء ورونق، وترى شعرهم رصينا متسقا على استواء واحد، لا يتدافع من جهاته، ولا يتعارض من جوانبه، ولا يجمح ولا يشتط، ولا يأتيه الضعف والهلهلة والاسترخاء من أية ناحية من نواحيه. وأما المعنى، فإن فحولة شعراء المشرق الذين افتنوا في المعاني افتنانا، وغاصوا عليها وأمعنوا حتى ظفروا بكل معنى عجيب يعمر الصدر، ويذكي الروح، ويشع في دنا العقل، فتنجاب له ظلمته، وتنير نواحيه، وتنفتح مغالقه؛ مثل بشار بن برد، وأبي نواس، وابن الرومي، وهذه الطبقة؛ فهم إنما بلغوا هذه الدرجة لأنهم من الموالي أبناء تلك الأمم الحمراء الذين امترسوا بالحضارة قبل العرب امتراسا، وعالجوها وعالجتهم، وداوروا صنوفها من الصناعات والعلوم وما إليها، وصرفوا فيها أعنة الفكر، وقدحوا لها زناد الرأي، وهلم حتى أنمى ذلك على كر الغداة ومر العشي عقولهم، وشحذ أذهانهم، وأذكى أرواحهم، وأكسبهم ملكات عبقرية عجيبة، فورث ذلك منهم أبناؤهم، وانحدر مع دمائهم، وكان منهم هذا النبوغ الذي نرى آثاره في السلام.
وما كاد أبو عبد الله يتم قولته تلك حتى صاح أبو بكر ابن القوطية وقال: أشيخنا شعوبي؟
29
فقال أبو عبد الله: إني وإن كنت لا أرى لعربي فضلا على أعجمي إلا بالتقوى، وأن تفاضل الناس فيما بينهم ليس بآبائهم ولا بأحسابهم، ولكنه بأفعالهم وأخلاقهم، وشرف أنفسهم، وبعد هممهم؛ فمن كان دنيء الهمة ساقط المروءة لم يشرف، وإن كان من بني هاشم في ذؤابتها، ومن أمية في أرومتها، وقيس في أشرف بطن منها؛ ومن ثم يقول الله جل شأنه:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ، ويقول رسول الله في خطبة الوداع: «أيها الناس، إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء؛ كلكم لآدم، وآدم من تراب. ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى.» فإني مع هذا أقول ما قاله ابن المقفع وقد سأل جماعة من أشراف العرب: أي الأمم أعقل؟ فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: لعله أراد أصله من فارس، فقالوا: فارس، فقال: ليسوا بذلك؛ إنهم ملكوا كثيرا من الأرض، ووجدوا عظيما من الملك، وغلبوا على كثير من الخلق، ولبث فيهم عقد الأمر، فما استنبطوا شيئا بعقولهم، ولا ابتدعوا باقي حكم في نفوسهم، قالوا: فالروم، قال: أصحاب صنعة، قالوا: فالصين، قال: أصحاب طرفة، قالوا : الهند، قال: أصحاب فلسفة، قالوا: السودان، قال: شر خلق الله، قالوا: الخزر، قال: بقر سائمة، قالوا: فقل، قال: العرب، فضحكوا، فقال: «أما إني ما أردت موافقتكم، ولكن إذ فاتني حظي من النسبة فلن يفوتني حظي من المعرفة. إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها، ولا آثار أثرت، أصحاب إبل وغنم، وسكان شعر وأدم، يجود أحدهم بقوته، ويتفضل بمجهوده، ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله، فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما يشاء فيحسن، ويقبح ما يشاء فيقبح، أدبتهم نفوسهم، ورفعتهم هممهم، وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم، فلم يزل حباء الله فيهم، وحباؤهم في أنفسهم، حتى رفع لهم الفخر، وبلغ بهم أشرف الذكر، وختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر، وافتتح دينه وخلافته بهم إلى الحشر، على الخير فيهم ولهم، فقال:
إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ، فمن وضع حقهم خسر، ومن أنكر فضلهم حسر، ودفع الحق باللسان أكبت للجنان.»
Unknown page