إن أولئك المغفلين حسبوا أن أغلاط الرسم التي وقعت من الصحابة كانت مقصودة، وراحوا يظهرون لها أوجها ما أنزل الله بها من سلطان؛ لاعتقادهم أن في ذلك تنزيها للصحابة عن توهم النقص في قلة الخط، وحسبوا أن الخط كمال فنزهوهم عن نقصه، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه، مع أن الخط ليس بكمال في حقهم؛ إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية، والكمال في الصنائع إضافي ليس بكمال مطلق؛ إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ولا في الخلال، وإنما يعود على أسباب المعاش وبحسب العمران والتعاون عليه ؛ لأجل دلالته على ما في النفوس، وقد كان
صلى الله عليه وسلم
أميا، وكان ذلك كمالا في حقه وبالنسبة إلى مقامه لشرفه وتنزهه عن الصنائع العملية، التي هي أسباب المعاش والعمران كلها، وليست الأمية كمالا في حقنا نحن؛ إذ هو منقطع إلى ربه ونحن متعاونون على الحياة الدنيا شأن الصنائع كلها حتى العلوم الاصطلاحية، فإن الكمال في حقه هو تنزهه عنها جملة بخلافنا. ا.ه.
ولقد بقي الخط على حاله القديمة في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم
والخلفاء الراشدين بعده لاشتغال المسلمين بالحروب الخارجية والفتن الداخلية، حتى زمن الأمويين الذي خفقت فيه راية الإسلام على المشرق والمغرب، فابتدأ الخط يسمو ويرتقي، وأول من كتب في أيام بني أمية قطبة، وقد استخرج الأقلام الأربعة واشتق بعضها من بعض، وكان أكتب الناس. وممن كان يوصف بحسن الخط في أيام بني أمية خالد بن أبي الهياج، وكان قد نصب لكتب المصاحف والشعر والأخبار للوليد بن عبد الملك الأمير الأموي، وكان الخط العربي حينئذ هو المعروف الآن بالكوفي، ومنه استنبطت الأقلام.
ولما استفحل ملك الإسلام، وأوغل العرب في المدنية، وازدان عصر العباسيين بأنوار العلم والعرفان، أخذت صناعة الخط تنمي وتنتشر وتتقدم كسائر الفنون التي ضرب فيها المسلمون بسهام نافذة لاحتياجهم إليها، وقد اشتدت حاجتهم إلى الخط بعد أن اختطوا البصرة والكوفة، وأنشئوا دور العلم، وشرعوا في نقل العلوم من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية؛ فاشتغل به جماعة من العلماء والكتاب في مدينتي العلم عند العرب، وهما: البصرة والكوفة؛ فعلا شأنه فيهما قليلا، وسمي عندئذ بالخط الكوفي لتفوقها فيه، وإن كان ذاك التفوق دون الغاية المطلوبة، ثم اشتد ساعد العرب وقويت شوكتهم وفتحوا إفريقية والأندلس، واختط بنو العباس بغداد وزينوها بدعائم العمران حتى صارت مركز الإمارة العربية؛ فتحسنت فيها الخطوط وارتقت إلى الغاية، ثم سمي خطها بالخط البغدادي، ثم تبعه في الظهور الخط الأفريقي المعروف رسمه القديم في ذلك العهد، ويقترب من أوضاع الخط المشرقي.
ومن المبرزين في الخط في الدولة العباسية الضحاك بن عجلان الكاتب، وكان في أوائل هذه الدولة، ظهر إثر قطبة الذي كان في الدولة الأموية واستخرج الأقلام الأربعة، وزاد الضحاك على قطبة، ثم كان إسحاق بن حماد في ملك المنصور والمهدي، وله عدة تلاميذ كتبوا الخطوط الأصلية الموزونة، وهي اثنا عشر قلما: قلم الجليل، قلم السجلات، قلم الديباج، قلم اسطورمار الكبير، قلم الثلاثين، قلم الزنبور، قلم المفتح، قلم الحرم، قلم المؤامرات، قلم العهود، قلم القصص، قلم الحرفاج.
وممن أحسن الخط وبرع في الدولة العباسية وأهمل ذكره المؤرخون وذكره أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور في كتابه المسمى كتاب بغداد في الجزء السادس منه، الذي نشره وطبعه بخطه في بلاد سويسرا هذه الأيام المستشرق العلامة هنس كلر؛ هو العلامة الجليل أحمد بن يوسف، قال أحمد بن طاهر: «دخل أحمد بن يوسف يوما على المأمون، فأمره فكتب بين يديه والمأمون يمل عليه.» قال: «وكان أحمد بن يوسف مع لسانه حلو الخط جدا، فنظر المأمون إلى خطه فقال: يا أحمد، لوددت أني أخط مثل خطك وعلي صدقة ألف ألف درهم.» قال: «فقال له أحمد بن يوسف: لا يسؤك الله يا أمير المؤمنين؛ فإن الله - عز وجل - لو ارتضى الخط لأحد من خلقه لعلمه نبيه
صلى الله عليه وسلم .» قال: «فقال المأمون: سريتها عني يا أحمد. وأمر له بخمسمائة ألف درهم.»
Unknown page