بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي هدانا بواضح الدليل إلى سبيل معادن العلم والتأويل، وسقانا بكأس رحيق السلسبيل من زلال عيون الوحي والتنزيل، وعرج بنا إلى معارج الهداية والدراية. وفتح لنا مغلقات الأحكام بمحكمات الآية والرواية، وشرح لنا مبهمات الحلال والحرام بلامعات الولاية الدامغة لدلهمات الغواية. والصلاة على مؤسس قواعد الدين بالقواعد الباهرة والبراهين. وآله الرافعين لأعلام ما أسس والمشيدين، صلاة توجب لنا الفوز بجوارهم في أعلى عليين.

(أما بعد) فيقول الفقير إلى ربه الكريم، والمتعطش إلى فيض جوده العميم يوسف بن أحمد بن إبراهيم أصلح الله تعالى له أمر داريه، ورزقه حلاوة نشأتيه، وثبته بالأمر الثابت لديه. ووفقه لتدارك ذنوبه قبل أن يخرج الأمر من يديه، وألحقه بأئمته مع جملة ولده وإخوانه ووالديه: أني كثيرا ما تشوقت نفسي إلى تأليف كتاب جامع للأحكام الفقهية المذيلة بالأخبار النبوية والآثار المعصومية، مشتمل على أمهات المسائل وما يتبعها من الفروع المرتبطة بالدلائل. فيعوقني عن ذلك تلاطم أمواج الفتن والغارات، وتزاحم أفواج المحن والشتات. وتراكم حنادس عوائق الزمان، وتصادم

Page 2

بوائق الحدثان، وانجذام يد الدين المنيف، وخمود صيت الشرع الشريف، في كل ناحية ومكان. وتشتت أهاليه في أقاصي البلدان، بل اضمحلال الفضلاء منهم والأعيان، حتى لقد أصبحت عرصات العلم دارسة الآثار، ومنازله مظلمة الأقطار، وعفت أطلاله ومعالمه، وخلت دياره ومراسمه.

خلت من أهاليها الكرام وأقفرت * فساحتها تبكي عليهم تلهفا وأوحش ربع الأنس بالإنس بعدهم * كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ولم تبق في ساحتها إلا قوم ببلدح عجفى. ولا من عرصاتها إلا دمنة لم تكلم من أم أوفى. وكنت ممن رمته أيدي الحوادث في الديار العجمية، وقذفته في تلك الأقطار منجنيق الرزية، على ما هي عليه من ترادف البلايا بلية إثر بلية، واضمحلال اسم الشرع فيها بالكلية، وتلبس الأغبياء بلباس الأفاضل. وتصدر الجهلاء لافتاء المسائل. فلم تزل تترامى بي أقطارها فأطوي هناك المراحل، وأقصد اليم فتقذفني الأمواج إلى الساحل يوما بحزوى ويوما بالعقيق * وبالعذيب يوما ويوما بالخليصاء حتى أنخت ركابي بدار العلم شيراز. ومن الله تعالى بالإكرام فيها والاعزاز، فبقيت فيها برهة من السنين مع جملة الأهل والبنين. في أرغد عيش وأصفاه، وأهنأ شراب وأوفاه، مشتغلا بمدارسة العلوم الدينية. وممارسة الأخبار المعصومية، فخطر بي ذلك الخاطر القديم. وناداني المنادي أن يا إبراهيم، فبقيت أقدم رجلا وأؤخر أخرى. وارى أن التقديم أحق وأحرى، فكم استنهضت مطي العزم على السير فلم تساعد. وبئس السير على ذلك العير الغير المساعد. إلا أني قد أبرزت ضمن تلك المدة جملة من الرسائل في قالب التحقيق. ونمقت شطرا من المسائل على نمط أنيق وطرز رشيق، حتى عصفت بتلك البلاد ريح عاصف حتت الورق، وفرقت من عقد نظامها ما اتسق. ولعبت بها أيدي الحوادث التي لا تنيم ولا تنام، وسقت أهلها من مرير علقهما كؤوس الحمام، قتلا وسلبا وأسرا وهتكا، كأنهم

Page 3

ممن خلع ربقة الاسلام، واستبدل بها عبادة الأوثان والأصنام، وحيث من الله تعالى بمزيد كرمه بالسلامة من تلك الأخطار، والنجاة من أيدي أولئك الأشرار، ركبت الفرار إلى بعض النواحي، وأغمضت عن عذل العذال واللواحي، واتخذت العزلة عن أشباه الناس وطنا، والوحدة من الدنفاس سكنا، وفي ذلك سلامة الدنيا والدين، والفوز بسعادة الحق واليقين، وضربت صفحا عن الطموح إلى زهرة هذه الدار، وطويت كشحا دون النظر إلى ما أسدته الأقدار، من البأس حلل اليسار أو أطمار الاعسار. وثوقا بضامن الأرزاق والمعطي على قدر الاستحقاق، وعند ذلك هجس بفكري ما كنت أتمناه من ذلك الكتاب، وأن هذه الخلوة أعز من أن تصرف في غير هذا الباب، ورأيت انتهاز الفرصة فإنها تمر مر السحاب، ولم يثن عزمي قلة الطلاب، ولا إشراف شموس الفضل على الغياب، بل صار ذلك أقوى سبب لي على القدوم، لما استفاض عن سدنة الحي القيوم من الحث الأكيد ومزيد التأكيد في إحياء هذا الدين ونشر شريعة سيد المرسلين، وعسى الله سبحانه أن ينفع به بعض الإخوان المؤمنين، والخلان الطالبين للحق واليقين، وقد سميته ب‍ (كتاب الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة) وإليه سبحانه أرغب في التوفيق سيما للاتمام والعصمة من زلل أقدام الأقلام في ميادين الأحكام، إنه تعالى أكرم من رغب إليه وأكفى من توكل عليه.

وقد رأيت أن أبدأ أولا بتمهيد جملة من المقدمات التي يتوقف عليها الاستدلال، ويرجع إليها في تحقيق الأحوال، ليكون كتابنا هذا كافلا بتحقيق ما يحتاج إليه من أصول وفروع، مغنيا عن الافتقار إلى غيره والرجوع.

المقدمة الأولى غير خفي - على ذوي العقول من أهل الايمان وطالبي الحق من ذوي

Page 4

الأذهان - ما بلي به هذا الدين من أولئك المردة المعاندين بعد موت سيد المرسلين، وغصب الخلافة من وصيه أمير المؤمنين، وتواثب أولئك الكفرة عليه، وقصدهم بأنواع الأذى والضرر إليه، وتزايد الأمر شدة بعد موته صلوات الله عليه، وما بلغ إليه حال الأئمة صلوات الله عليهم من الجلوس في زاوية التقية، والاغضاء على كل محنة وبلية. وحث الشيعة على استشعار شعار التقية، والتدين بما عليه تلك الفرقة الغوية، حتى كورت شمس الدين النيرة، وخسفت كواكبه المقمرة، فلم يعلم من أحكام الدين على اليقين إلا القليل، لامتزاج أخباره بأخبار التقية، كما قد اعترف بذلك ثقة الاسلام وعلم الأعلام (محمد بن يعقوب الكليني نور الله تعالى مرقده) في جامعه الكافي، حتى أنه (قدس سره) تخطأ العمل بالترجيحات المروية عند تعارض الأخبار، والتجأ إلى مجرد الرد والتسليم للأئمة الأبرار. فصاروا صلوات الله عليهم - محافظة على أنفسهم وشيعتهم - يخالفون بين الأحكام وإن لم يحضرهم أحد من أولئك الأنام، فتراهم يجيبون في المسألة الواحدة بأجوبة متعددة وإن لم يكن بها قائل من المخالفين، كما هو ظاهر لمن تتبع قصصهم وأخبارهم وتحدى (2) سيرهم وآثارهم.

وحيث إن أصحابنا رضوان الله عليهم خصوا الحمل على التقية بوجود قائل من العامة، وهو خلاف ما أدى إليه الفهم الكليل والفكر العليل من أخبارهم صلوات الله عليهم، رأينا أن نبسط الكلام بنقل جملة من الأخبار الدالة على ذلك، لئلا يحملنا الناظر على مخالفة الأصحاب من غير دليل، وينسبنا إلى الضلال والتضليل.

فمن ذلك ما رواه في الكافي (1) في الموثق عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: (سألته عن مسألة فأجابني، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت:

Page 5

يا ابن رسول الله رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان، فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال: يا زرارة إن هذا خير لنا وأبقى لكم. ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا ولكان أقل لبقائنا وبقائكم. قال:

ثم قلت لأبي عبد الله عليه السلام: شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين، قال: فأجابني بمثل جواب أبيه).

فانظر إلى صراحة هذا الخبر في اختلاف أجوبته عليه السلام في مسألة واحدة في مجلس واحد وتعجب زرارة، ولو كان الاختلاف إنما وقع لموافقة العامة لكفى جواب واحد بما هم عليه، ولما تعجب زرارة من ذلك، لعلمه بفتواهم عليهم السلام أحيانا بما يوافق العامة تقية، ولعل السر في ذلك أن الشيعة إذا خرجوا عنهم مختلفين كل ينقل عن إمامه خلاف ما ينقله الآخر، سخف مذهبهم في نظر العامة، وكذبوهم في نقلهم. ونسبوهم إلى الجهل وعدم الدين، وهانوا في نظرهم، بخلاف ما إذا اتفقت كلمتهم وتعاضدت مقالتهم، فإنهم يصدفونهم ويشتد بغضهم لهم ولإمامهم ومذهبهم، ويصير ذلك سببا لثوران العداوة، وإلى ذلك يشير قوله عليه السلام:

(ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا... الخ).

ومن ذلك أيضا ما رواه الشيخ في التهذيب (1) في الصحيح - على الظاهر - عن سالم أبي خديجة عن أبي عبد الله (ع) قال: (سأله انسان وأنا حاضر فقال: ربما دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلي العصر، وبعضهم يصلي الظهر؟ فقال: أنا أمرتهم بهذا، لو صلوا على وقت واحد لعرفوا فأخذ برقابهم) وهو أيضا صريح في المطلوب، إذ لا يخفى أنه لا تطرق للحمل هنا على موافقة العامة، لاتفاقهم على التفريق بين وقتي الظهر والعصر ومواظبتهم على ذلك.

Page 6