حتى كان الغزالي يقول كلما عاودته تلك الذكرى: «طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله.»
وقضى الغزالي فترة في إحدى مدارس العلم الديني في بلدته، قرأ الفقه خلالها على: «أحمد بن محمد الطوسي»، ثم جنحت به نفسه إلى الاستزادة من العلوم، فهاجر إلى جرجان إلى الإمام العلامة «أبي نصر الإسماعيلي».
وفي جرجان ابتدأ الغزالي يكتب ما يتلقى من علوم أستاذه، ولكن يظهر أنه لم يستفد عقليا مما كتب أو استمع؛ بل كان يقرأ أو يكتب في نهم وسرعة دون عناية بالفهم والهضم؛ يدل على ذلك تلك القطعة الطريفة الساذجة المكتوبة بقلمه في اعترافاته التي أسماها: «المنقذ من الضلال»، والتي تدل على تلك الفترة من حياته قال:
قطعت علينا الطريق، وأخذ العيارون جميع ما معي ومضوا، فتعقبتهم، فالتفت إلي مقدمهم، وقال: ارجع ويحك! وإلا هلكت. فقلت له: أسألك بالذي ترجو السلامة منه أن ترد علي تعليقتي فقط، فما هي بشيء تنتفعون به. فقال لي: وما هي تعليقتك؟ فقلت: كتب في تلك المخلاة هاجرت لسماعها وكتابتها، ومعرفة علومها. فضحك، وقال: كيف عرفت علمها، وقد أخذناها منك فتجردت من معرفتها وبقيت لا علم؟ ثم أمر بعض أصحابه فسلم إلي المخلاة، فتركت تلك الحادثة في نفسي أثرا كبيرا، وقلت في نفسي: هذا مستنطق أنطقه الله؛ ليرشدني به في أمري. فلما وافيت طوس أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين حتى حفظت جميع ما علقته، وصرت بحيث لو قطع علي الطريق لم أتجرد من علمي.
وتلك القطعة التصورية من قلم الغزالي تدلنا على صفة كان لها أكبر الأثر في إعداده ورسالته، وهي تأثره العجيب بالجانب الديني الصوفي من الحياة، فهو يرى في جواب قاطع الطريق رسالة سماوية ونطقا ربانيا لإرشاده في أمره وطرق تعليمه.
عاد الغزالي من جرجان إلى طوس، وانقطع انقطاعا تاما - كما يقول - إلى العلم ثلاث سنوات؛ حتى حفظ جميع ما درس، واستوعب ما قرأ، بحيث لو قطع عليه الطريق، وسرق ما معه لم يتجرد من العلم والمعرفة. والعلم في نظر الغزالي كان خلال تلك المدة غير واضح المعاني، غير واضح الأهداف؛ فهو يدرس ويحفظ على طريقة عهده كتب الدين وآراء المذاهب والفقهاء؛ ليكون يوما ما من رجال التدريس أو القضاء، أو قد يسعده الزمان فيلتحق ببطانة عظيم أو أمير أو سلطان.
ولكن تلك الروح العظيمة التي أعدت لغير ما يعدها صاحبها لم تقنع بما وصلت إليه من دراسات، ولم تطمئن إلى ذلك اللون من التعليم، بل لم تقنع بما ألقي إليها من يقين؛ إذ هي تنشد معاني أخر، وتلتمس بابا إلى النور لم يزل خافيا.
وضاقت معارف طوس بالغزالي، كما ضاق بها؛ فرحل إلى نيسابور، إحدى مدن العلم والنور في عهده، وهناك اتصل بإمام الحرمين أبي المعالي الجويني علم عصره في التوحيد والإلمام بمذهب الأشعرية، وطرق الجدل والأصول والمنطق.
وفي نيسابور ابتدأت خطوط تلك النفس العظيمة تتكون وتتضح، وابتدأت آفاق الغزالي تتفتح وتتسع، فهو يشاهد فيها دنيا جديدة ومجتمعا جديدا مزدحما بأنفاس العلماء، كما هو مزدحم بأنفاس الحياة.
وفي نيسابور ابتدأ إيمان الغزالي بعلم الفقه يضعف، كما أخذ إجلاله للعلماء يتضاءل، فهو يدرس ويستمع إلى آراء المذاهب، ويعجب لتفرقها وتخاصمها، كما يعجب لطرائقها في البحث والجدل، ويعجب أكبر ما يعجب لخلولها من الروح والإيمان.
Unknown page