بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر ولا تعسر
الحمد لله بارئ النسم، رازق القسم، الحكيم فيما أنشأ ودبر، الخبير بما قدم وأخر، الذي وسع خلقه علمه، وعدل فيهم حكمه، يخلق ويختار، وكل شيء عنده بمقدار، اختص بالأثرة الإنسان فأكرمه بتعليم البيان، ويسره للنطق والكلام، والفهم والإفهام، ليبلو فيها طاعته ويكمل بها سعادته، أحمده على ما عم من نعمه، وخص من مننه، وأشكره على حسن ما اختار لنا من دينه، وأكرمنا به من سنة نبيه، وأخلص القول بأن لا إله إلا الله، شهادة الموحد المستبصر غير المتوقف المتحير، وأشهد أن محمدا عبده الأمين على وحيه، ورسوله الصادع بأمره ونهيه، المؤيد بجوامع الكلم، المبين للناس ما نزل إليهم بلسان عربي مبين، فيه واضح يعرفه السامعون، وغامض لا يعقله إلا العالمون، لتكون آثار الحكمة فيها قائمة، ودلائل الاعتبار عليها شاهدة، وليرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات.
وكان أرفعهم في العلم درجة، وأعلاهم قدرا ورتبة أئمة القرون الثلاثة، الذين نالتهم الخيرة، ولحقتهم الدعوة في قوله ﷺ: (خير الناس قرني، ثم
1 / 46
الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). وهم الصدر الأول، والنمط الأفضل، ورثة علم السنة والحافظون لها على من بعدهم من الأمة، ثم لم يزل أول منهم يلقيه إلى آخر، ويتلقاه خالف عن سالف، ليكون دين الله بهم محروسا عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فصلى الله عليه وعلى المصطفين من آله، ورضي الله عن الغر المنتخبين من أصحابه، وغفر للتابعين لهم بإحسان.
ثم إن الحديث لما ذهب أعلامه بانقراض القرون الثلاثة، واستأخر به الزمان، فتناقلته أيدي العجم، وكثرت الرواة وقل منهم الرعاة، وفشا اللحن، ومرنت عليه الألسن اللكن، رأى أولو البصائر والعقول، والذابون عن حريم الرسول أن من الوثيقة في أمر الدين والنصيحة لجماعة المسلمين، أن يعنوا بجمع الغريب من ألفاظه، وكشف المغدَف من قناعه، وتفسير المشكل من معانيه، وتقويم الأود من زيغ ناقليه، وأن يدونوه في كتب تبقى على الأبد، وتخلد على وجه المسند، لتكون لمن بعدهم قدوة وإماما، ومن الضلال عصمة وأمانا.
فكان أول من سبق إليه ودل من بعده عليه أبو عبيد القاسم بن سلام
1 / 47
فإنه قد انتظم بتصنيفه عامة ما يحتاج إلى تفسيره من مشاهير غريب الحديث، فصار كتابه إماما لأهل الحديث، به يتذاكرون، وإليه يتحاكمون، ثم انتهج نهجه ابن قتيبة أبو محمد عبد الله بن مسلم، فتتبع ما أغفله أبو عبيد من ذلك، وألف فيه كتابا لم يأل أن يبلغ به شأو المبرِّز السابق، وبقيت بعدهما صبابة للقول فيها متبرض، توليتُ جمعها وتفسيرها مستعينا بالله ومسترسلا إلى ذلك بحسن هدايتهما وفضل إرشادهما، وبما نحوته نم التيمم لقصدهما والتقيُّل لآثارهما، وكان ذلك مني بعد أن مضى عليَّ زمان وأنا أحسب أنه لم يبق في هذا الباب لأحد متكلم، وأن الأول لم يترك للآخر شيئا، وأتكل مع ذلك على قول ابن قتيبة حين يقول في آخر الخطبة من كتابه (وأرجو ألا يكون بقي بعد هذين الكتابين من غريب الحديث ما يكون لأحد فيه مقال).
ثم إنه لما كثر نظري في الحديث، وطالت مجالستي أهله، ووجدت فيما يمر بي ويرد علي منه ألفاظا غريبة لا أصل لها في الكتابين، علمت أن خلاف ما كنت أذهب إليه من ذلك مذهبا، وأن وراءه مطلبا فصرفت إلى جمعها عنايتي، ولم أزل أتتبع مظانها وألتقط آحادها وأضم نشرها، وألفق بينها، حتى اجتمع منها ما أحب الله أن يوفق له، واتسق الكتاب، فصار كنحو من كتاب أبي عبيد أو كتاب صاحبه، ونحوت نحوهما في الوضع والترتيب، وابتدأت أولا بتفسير حديث رسول الله ﷺ، ثم ثنيت بأحاديث الصحابة، وأردفتها أحاديث التابعين، وألحقت بها مقطعات من الحديث، لم أجد لها في الرواية سندا، إلا أنها قد أخذت عن المقانع من أهل العلم،
1 / 48
والأثبات من أصحاب اللغة، وختمت الكتاب بإصلاح ألفاظ من مشاهير الحديث، يرويها عوام النقلة ملحونة ومحرفة عن جهة قصدها، رأيت داعية الحاجة منهم إلى ذكرها شديدة والفائدة في تقويمها لهم عظيمة، ولم أعرض لشيء فسر في كتابيهما إلا أن يتصل حرف منه بكلام، فيذكر في ضمنه، أو يقع شيء منه في استشهاد أو نحوه، وإلا أحاديث وجدت في تفسيرها لمتقدمي السلف أو لمن بعدهم من أهل الاعتبار والنظر أقاويل تخالف بعض مذاهبهما، وتعدل عن سنن اختيارهما، اقتضى حق هذا الكتاب، وشرط ما هو ضامنه من استيفاء هذا الباب أن يكون مشتملا عليها ومحيطا بها، ويكفي من العذر فيما أَورَده [؟ أُورِده] منها أن الغرض فيه أن يظهر الحق وأن يبين الصواب، دون أن يكون القصد به الاعتراض على ماضٍ أو الاعتداد على باق، ولعل بعضَ ما نأثره منها لو بلغ أبا عبيد وصاحبه لقالا به وانتهيا إليه، وذلك الظن بهما يرحمهما الله، فأما سائر ما تكلمنا عليه مما استدركناه بمبلغ أفهامنا وأخذناه عن أمثالنا فإنا أحقاء بألا نزكية وألا نؤكد الثقة به، وكل من عثر منه على حرف أو معنى يجب تغييره فنحن نناشده الله في إصلاحه وأداء حق النصيحة فيه، فإن الإنسان ضعيف لا يسلم من الخطأ إلا أن يعصمه الله بتوفيقه، ونحن نسأل الله ذلك ونرغب إليه في دركه إنه جواد وهوب.
وقد بقي في هذا الباب كتب غير ما ذكرناه، منها كتاب أبي عبيدة معمر بن المثنى، وكتاب ينسب إلى الأصمعي يقع في ورقات معدودة، وكتاب محمد بن المستنير الذي يعرف بقطرب، وكتاب النضر بن شميل، وكتاب إبراهيم بن إسحاق الحربي، وكتاب أبي معاذ المروزي صاحب
1 / 49
القراءات، وكتاب شمر بن حمدويه، وكتاب الباجُدَّائي، وكتاب آخر ينسب إلى رجل يعرف بأحمد بن الحسن الكندي، إلا أن هذه الكتب على كثرة عددها إذا حُصِّلت كانت كالكتاب الواحد؛ إذ كان مصنفوها لم يقصدوا بها مذهب التعاقب كصنيع القتيبي في كتابه، إنما سبيلهم فيها أن يتوالوا على الحديث الواحد فيعتوروه فيما بينهم، ثم يتبارون في تفسيره يدخل بعضهم على بعض، ولم يكن من شرط المسبوق منهم أن يفرج للسابق عما أحرزه وأن يقتضب الكلام في شيء لم يفسر قبله، على شاكلة مذهب ابن قتيبة وصنيعه في كتابه الذي عقب به كتاب أبي عبيد، ثم إنه ليس لواحد من هذه الكتب التي ذكرناها أن يكون شيء منها على منهاج كتاب أبي عبيد في بيان اللفظ وصحة المعنى وجودة الاستنباط وكثرة الفقه، ولا أن يكون من شرح [؟ شرج] كتاب ابن قتيبة في إشباع التفسير وإيراد الحجة وذكر النظائر والتخلص للمعاني، إنما هي أو عامتها إذا انقسمت وقعت بين مقصر لا يورد في كتابه إلا أطرافا وسواقط من الحديث، ثم لا يوفيها حقها من إشباع التفسير وإيضاح المعنى، وبين مطيل يسرد الأحاديث المشهورة التي لا يكاد يشكل منها شيء، ثم يتكلف تفسيرها ويطنب فيها.
وفي بعض هذه الكتب خلل من جهة التفسير، وفي بعضها أحاديث منكرة، لا تدخل في شرط ما أنشئت له هذه الكتب، وكتاب شمر أشفُّها [؟ أشفاها] وأوفاها.
وفي الكتابين غنى ومندوحة عن كل كتاب ذكرناه قبل، إذ كانا قد
1 / 50
أتيا على جماع ما تضمنه من تفسير وتأويل، وزادا عليه فصارا أحق به وأملك به، ولعل الشيء بعد الشيء منها قد يفوتهما، إلا أن الذي يُفلتهما من جملة ما فيها إنما هو النبذ اليسير الذي لا يعتد به ولا يؤبه به.
ولابن الأنباري من وراء هذا مذهب حسن في تخريج الحديث وتفسيره، وقد تكلم على أحاديث معدودة وقع إليَّ بعضها، وعامتها مفسرة قبلُ، إلا أنه قد زاد عليها وأفاد، وله استدراكات على ابن قتيبة في مواضع من الحديث، ربما نذكر الشيء منها في أضعاف كتابنا هذا وننسبه إليه، وسيمر بك ذلك في مواضعه إن شاء الله.
وأما كتابنا هذا فقد كان خرج لي بعضُه وأنا إذ ذاك ببخارى في سنة تسع وخمسين وثلثمائة، فطلب إلي إخواننا بها أن أمكنهم من انتساخه وأحبوا أن يتعجلوا فائدته من غير تعريج علي في إتمامه وتلوم في النظرة لأن يبلغ إناه، فأفرجت لهم عنه ولما يأت النظر بعدُ على استيفاء ملاحظته، ولم يقع الاحتشاد مني لتهذيبه، وقد قال الحكيم: دعوا الرأي حتى يَغِبَّ.
وأخبرني أبو عمر محمد بن عبد الواحد النحوي قال: أخبرنا أبو العباس ثعلب عن ابن نجدة عن أبي زيد قال: لا يبيضُّ الكتابُ حتى يسود.
وعليها من حال، فلم تكن أيضا كتبي التي أعتمدها معي، ولعلي مع
1 / 51
ذلك لم أكن من فراغ البال وزوال تقسُّم القلب بحيث كنت أتسع لتهذيب ما كنت سبيلُه أن يهذب منه.
ولما تنفس الوقت، ورزق الله التوفيق لما أحب أن يوفق منه، وتصفحت ما في تلك النسخة تبينت في أحرف منها خللا، فغيرتُ وأصلحت، وزدت وحذفت، ورتبت الكتاب على الوجه الذي استقر الآن عليه، فمن وقف على شيء من تلك النسخة فليقف على السبب فيه، والله الموفق للصواب. ولا حول ولا قوة إلا به.
قال أبو سليمان: وقد رأيت أن أقدم هذه الفصول بين يدي ما أنا مفسره من غريب الحديث في كتابنا هذا ليمتثلها أصحاب الحديث وطلاب الأثر، فتكون تقدمة للمعرفة وتوطئة للصناعة، وأجعلها رفدا للمسترفدين وزادا للمقوين، والله ينفعنا وإياهم بمنه.
1 / 52
بسم الله الرحمن الرحيم
القول فيما يجب على من طلب الحديث من تعلم كلام العرب
وتعرف مذاهبها ومصارف وجوهها
إن بيان الشريعة لما كان مصدره عن لسان العرب، وكان العمل بموجبه لا يصح إلا بإحكام العلم بمقدمته، كان من الواجب على أهل العلم وطلاب الأثر أن يجعلوا أولا عظم اجتهادهم، وأن يصرفوا جل عنايتهم إلى علم اللغة والمعرفة بوجوهها، والوقوف على مُثُلها ورسومها.
ثم إن فنونها كثيرة، ومنادحها واسعة، والطمع عن الاستيلاء عليها منقطع، والإمعان في طلبها يستغرق العمر، ويصد عما وراءها من العلم، وملاك الأمر فيما تمس بهم إليه الحاجة منها معرفة أبواب ثلاثة: وهي أمثلة الأسماء، وأبنية الأفعال، وجهات الإعراب، فإن من لم يحكم هذه الأصول لم يكمل لأن يكون واعيا لعلم أو راويا له، وبالحريِّ [؟ وبالحرَى] أن يكون ما يفسده منه أكثر مما يصلحه، وقد قال رسول الله ﷺ: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها ووعاها، وأداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه). فالذاهب عن طريق الصواب فيها كيف
1 / 53
يؤديها كما سمعها، وهو لم يتقن حفظها، ولم يحسن وعيها، وكيف يبلغها من هو أفقه منه وهو لا يملك حملها ولا ينهض بعبئها، فهو إذن مغتصب على الفقيه حقه، قاطعٌ لطريق العلم على من بعده، والله المستعان. وأنا ممثل لك يا طالب الحديث في كل باب من هذه الأبواب الثلاثة مثلا من الحديث تستدل بها على ما أردت بيانه لك منها إن شاء الله.
روي عن النبي ﷺ أنه قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين).
الرواية بتحريك اللام في الخلف، وقد رواه بعضهم بسكون اللام، فأزال الخبر عن جهته، وأحال معناه. لأن رسول الله ﷺ لم يقصد بقوله هذا ذم عدول حملة العلم، إنما أراد به مدحهم والثناء عليهم. وإنما الخلف بسكون اللام خلف السوء. قال الله تعالى: ﴿فخلف من بعدهم خلف﴾، ومنه قول لبيد بن ربيعة العامري:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيتُ في خلف كجلد الأجرب
ويقال: فلان خلف صدق من أبيه، وخلف سوء -متحركة اللام- فإذا لم تذكر خيرا ولا شرا قلت في الخير خلَف، وفي الشر خلْف.
ومن هذا الباب حديثه الآخر، أنه قال: (من تزوج ذات جمال ومال،
1 / 54
فقد أصاب سِدادا من عوز)، رواه هشيم بن بشير سدادا -بفتح السين- فأزال المعنى، وإنما هو السِّداد -مكسورة السين- من سد الخلة، وكل شيء سددت به فرجة، أو ردمت به ثلمة فهو سداد، ولذلك سمي صمام القارورة سدادا، فأما السداد -بفتح السين- فهو مصدر سد رأيُ فلان يسد سدادا. وكان المأمون قد سمع هذا الحديث من هشيم، فرواه ملحونا كما سمعه اتباعا للرواية، فراجعه النضر بن شميل في ذلك، فامتعض من هجنة اللحن.
حدثني أحمد بن عبدوس، ثنا مسبح بن حاتم العكلي، نا حسين بن أحمد الأصبهاني، عن النضر بن شميل قال: لما قدم علينا المأمون خراسان دخلنا عليه فحدثنا عن هشيم، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله ﷺ: (من تزوج ذات جمال ومال، فقد أصاب سَدادا من عوز)، فقلت له: حدثنا عوف الأعرابي، عن الحسن، عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله ﷺ: (من تزوج ذات جمال ومال، فقد أصاب سِدادا من عوز). فقال: أتلحنونني؟ فقلت: لحن هشيم، وكان لحانا، فقال: وما حجتك؟ قال: قلت: قول العرجي:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
قال: فسكت.
وأما الغلط في التصريف وأبنية الفعل فكالحديث الذي رُوي أنه
1 / 55
(أتي بأسير يُرعَد فقال لهم أدفُوه)، يريد أدفئوه من الدفاء ولم يكن من لغته الهمز، فذهبوا به فقتلوه، فوداه رسول الله ﷺ، ولو كان يريد به معنى القتل لقال: دافُوه أو دافُّوه بالتثقيل، يقال: دافيت الأسير وداففته إذا أجهزت عليه.
ومما نقل من هذا الباب معدولا به عن سمته حديثه الآخر، حين أتاه قوم من العرب كان لهم طول على آخرين، فقالوا: لا نرضى إلا بأن يقتل بالعبد منا الحر منهم، فأمرهم ﷺ أن يتباوؤوا، يرويه المحدثون: يتباأوْا، وكذلك رواه هشيم وغيره من الرواة، والصواب يتباوؤوا، على مثال: يتقاولوا، من البَواء، وهو التساوي في القصاص؛ قال الأعشى:
إما يصبك عدو في مباوأة يوما فقد كنت تستعلي وتنتصر
فأما يتباأوا فإنما يكون من بأو الكبر والزهو، وهو ضد المعنى الذي أمرهم به من التساوي.
وأما الإعراب وما يختلف من معاني الحديث باختلافه فكقوله: (ذكاةُ الجنين ذكاةُ أمه). الرواية بضم الذكاتين على مذهب الخبر، وقد حرَّفه بعضهم فنصب الذكاة على مذهب الأمر، لينقلب تأويله فيستحيل به المعنى عن الإباحة إلى الحظر.
1 / 56
وكقوله: (احتج آدم وموسى، فحج آدمُ موسى). الوجه أن ترفع آدم لأن الفعل له، وتنصب موسى لأنه المحجوج، فمن أغفل مراعاة الإعراب ونصب آدم أحال في الرواية وأنكر القدر.
ومن تتبع هذا الباب في الحديث وجد منه الكثير، وفيما أوردت دليل على ما أردت، فواجب على من دأب في طلب الحديث ولهج بتتبع طرقه أن يُعنى أولا بإصلاح ألفاظه وإحكام متونه لئلا يكون حظه من سعيه عناء لا غناء معه، وتعبا لا نُجح فيه.
التصحيف وسوء التأويل
إن طالب الحديث إذا أغفل معرفة الأبواب الثلاثة التي قدمنا ذكرها لم يكد يسلم من التصحيف وسوء التأويل؛ وذلك لأن فيما يرد من الحديث ألفاظا كثيرة متشابهة في الصورة والخط، متنافية في المعنى والحكم، فحق على طالب الحديث أن يرفق في تأمل مواضع الكلام، ويحسن التأني [؟ التأتي] لمحنة اللفظ، ومعرفة ما يليق به من المعنى، ليستوضح به قصده، ويصيب جهته، فإن قوما أغفلوا تفقد هذا الباب فلحقتهم سمة التحريف ولزمتهم هجنة التقصير، وصاروا سُبة على أهل الحديث تُنْثَى زلاتهم وتُذكر عثراتهم.
حدثني عبد العزيز بن محمد المسكي، نا محمد بن عبد الله بن الجنيد نا سويد، نا ابن المبارك، عن ابن جريج، سمعت ابن أبي مليكة، يقول: أخبرني عبد الله بن أبي عمار قال: سرقت لي عيبة ومعنا رجل يتهم، فقال
1 / 57
أصحابي: يا فلان، اردد عليه عيبته، فقال: ما أخذتها فجئت إلى عمر بن الخطاب، فأخبرته القصة وقلت: يا أمير المؤمنين، لقد هممت أن آتي به مصفودا، قال: تأتيني به مصفودا بغير بينة، وغضب، فما كتب لي فيها وما سأل.
قال الخليل: هذا مما صحف فيه الرواي، إنما قال له عمر: تعترسه بمعنى تقهره وتظلمه، قال: وذلك لأنه لو أقام عليه البينة لم يكن في الحكم أن يكتفه.
وأخبرنا ابن الأعرابي قال: نا العباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين، وذكر حديث أبي الدرداء (أَتْقَنوا عليك البنيان وتركوك لمتَلِّك) أي لمصرعك.
قال يحيى بن معين: صحفه فلان فرواه: لمثلك.
قال يحيى: وصفح فلان حديث أبي عبيدة: (أنه كان على الحُسَّر) فرواه: على الجسر. والحُسَّر: جمع حاسر، وهو الذي لا درع عليه.
قال: وصحف في حديث يرويه شبابة عن ورقاء فيه عِبْر
1 / 58
الوادي، فقال: عَبَر الوادي، وإنما هو العِبْر، يريد شاطئ الوادي، قال النابغة:
ترمي أواذيُّه العبرين بالزبد
ومن تصحيف بعض الرواة في الحديث الذي يروى (إن صمتم حتى تكونوا كالأوتار، وصليتم حتى تكونوا كالحنائر).
رواه الجنائز، وإنما هي الحنائر جمع حنيرة، وهي القوس لا وتر عليها. والحنيرة أيضا: الطاق المعقود من طيقان البناء.
وفي حديث يأجوج ومأجوج (أنها إذا هلكت أكلت منها دواب الأرض، فتسمن وتشكر شكرا)، بلغني عن بعضهم أنه كان يقول: تسكر سكرا، من سكر الشراب، وإنما هي تشكر أي تمتلئ شبعا.
أخبرني أبو عمر، أنا أبو العباس ثعلب، عن عمر بن شبة، قال: قيل لمحمد بن واسع: ما للقراء أغلم الناس؟ قال: لأنهم لا يزنون، قال: فما بالهم آكل الناس؟ قال: لأنهم لا يَشكَرون؛ أي لا يمتلئون شبعا.
واستقصاء هذا الباب يطول، وإنما أردت التنبيه لمنتحلي الحديث؛ لئلا
1 / 59
يضاهوا مذهب من ذكرناهم، فيخرجوا به من جملة من عدَّله الرسول في قوله (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ..) الحديث.
ذكر ما درج عليه الصدر الأول من لزوم الإعراب، وما أنكروه من
اللحن وعابوه من أهله
أخبرنا ابن داسة، نا محمد بن عيسى بن السكن، نا أبو عمران الجبلي: موسى بن إسماعيل، نا نوح بن عباد، عن الحكم بن عبد الله الأيلي، عن الزهري، عن سالم عن أبيه قال: أتى عمر بن الخطاب على قوم يرمون رشقا لهم، فأساؤوا الرمي، فقالوا: يا أمير المؤمنين نحن قوم متعلمين، فقال عمر: لإساءتكم في لحنكم شر من إساءتكم في رشقكم أو رميكم، رحم الله امرأ أصلح من لسانه.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز بن شابور، نا علي بن عبد العزيز، أراه عن رجل، عن عبد الواحد بن زياد، عن المسعودي، عن القاسم، قال: قال عمر: تعلموا العربية، فإنها تثبت العقل.
حدثني عبد الله بن محمد، قال: حدثت عن أحمد بن حنبل، نا يحيى بن آدم، نا أبو بكر، عن عاصم قال: كان زر بن حبيش الأسدي من أعرب الناس، وكان عبد الله بن مسعود يسأله عن العربية.
1 / 60
حدثنا عبد الرحمن بن الأسد، نا الدبري، عن عبد الرزاق، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يضرب ولده على اللحن.
أخبرني محمد بن المكي: أنا الصائغ، نا سعيد بن منصور، أنا هشيم، أنا حصين، أنا عبيد الله بن عبد الله قال: رأيت ابن عباس يُسأل عن عربية القرآن فينشد الشعر. قال سعيد: ونا جرير بن عبد الحميد، عن إدريس -وكان من خيار الناس- قال: قيل للحسن: إن لنا إماما يلحن، فقال: أخروه.
حدثنا عبد الله بن شاذان الكراني، أنا زكريا بن يحيى الساجي، نا الحسن بن إدريس، نا العلاء بن عمرو، نا عبد القدوس، عن حجاج قال: قال عطاء: وددت أني أحسن العربية، وهو يومئذ ابن تسعين سنة.
أخبرني أبو رجاء الغنوي، نا أبي، نا عمر بن شبة، حدثني عفان، عن همام قال: ما سمعتم من حديث قتادة ملحونا فأعربوه، فإن قتادة كان لا يلحن.
أخبرني ابن شابور، نا علي بن عبد العزيز، نا الزبير بن بكار، نا النضر بن شميل، عن الخليل بن أحمد قال: لحن أيوب، فقال: أستغفر الله.
أخبرنا الكراني، نا عبد الله بن شبيب، نا زكريا بن يحيى المنقري، نا
1 / 61
الأصمعي قال: سمعت حماد بن سلمة يقول: (من لحن في حديثي فليس يحدث عني).
أخبرني محمد بن يعقوب المتوثي، نا أحمد بن عمرو الزئبقي، نا أبي، نا الأصمعي قال: قال لي شعبة: إني وصفتك لحماد بن سلمة، وهو يحب أن يراك، قال: فوعدته يوما فذهبت معه إليه فسلمت عليه، فحيا ورحب، فقال له شعبة: يا أبا سلمة، هذا ذاك الفتى الأصمعي الذي ذكرته لك، قال: فحياني بعد وقرب، ثم قال لي: كيف تنشد هذا البيت:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا ... فقلت:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
يعني بكسر الباء، فقال لي: انظر جيدا، فنظرت فقلت: لست أعرف إلا هذا، فقال: يا بني، أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البُنا بضم الباء، القوم إنما بنوا المكارم، ولم يبنوا باللبن والطين، قال: فلم أزل هائبا لحماد بن سلمة ولزمته بعد ذلك.
قال أبو سليمان: وأنشدنيه بعض الأثبات، عن محمد بن حاتم المظفري، أنشدناه الرياشي فقال: البُنا بالضم، قال: وواحدتها بُنية. قال أبو العباس
1 / 62
محمد بن يزيد: واحدتها بِنية وبُنية، فجمع بنية بنى، مثال كسرة وكسر، وجمع بُنية بنى مثل ظلمة وظلم، فأما المصدر من بنيت بناء فممدود، ويشبه أن يكون حماد إنما اختار الضمة وأنكر الكسرة فيها لئلا يلتبس بالبناء الذي هو باللبِن والطين، إذ كان من مذهبهم أن يستجيزوا قصر الممدود في الشعر.
وأخبرنا ابن الأعرابي نا الدوري، عن يحيى بن معين، قال: كان شعبة صاحب عربية وشعر.
وأخبرني أحمد بن إبراهيم بن مالك، نا الدغولي، نا المظفري، نا أبو بهز بن أبي الخطاب السلمي قال: كان زريع أبو يزيد بن زريع على عَسَس بلال بن أبي بردة، قال: فقال لي: بلغني أن أهل الأهواء يجتمعون في المسجد ويتنازعون فاذهب فتعرَّف ذاك، قال: فذهب ثم رجع إليه فقال: ما وجدتُ فيه إلا أهل العربية حَلَقة حلَقة، فقال له: ألا جلست إليهم حتى لا تقول حلقة حلقة. قال أبو سليمان: وإنما هي الحلْقة، حلقة القوم وحلقة القرط ونحوها.
أخبرني أبو عمر أنا ثعلب، عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه قال: لا أقول حلقة إلا في جمع حالق. وحدثني محمد بن معاذ، أنا بعضُ أصحابنا، عن أبي داوود السنجي: سمعت الأصمعي يقول: إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي ﷺ: (من كذب علي متعمدا فليبتوأ مقعده من النار)؛ لأنه لم
1 / 63
يكن يلحن، فمهما رويت عنه ولحنت فيه كذبت عليه، فهؤلاء الصحابة والتابعون ومن بعدهم من أعلام الحديث وحفاظ الأثر كل منهم يحض على تقويم اللسان وإعراب الكلام، ويذم اللحن ويهجن أهله، وعلى هذا مضى من لم نذكره منهم، حيث كانوا في كل عصر وزمان، وفي كل مصر ومكان إلا عوام الغُثْر الذين لا نظام لهم ولا اعتبار بمذاهبهم، فإن فساد كل صناعة من كثرة الأدعياء وقلة الصرحاء، وطلاب الحديث كثير وأصحابه قليل.
حدثنا إسماعيل بن محمد الصفار، سمعت العباس بن محمد الدوري يقول: أردت الخروج إلى البصرة فصرت إلى أحمد بن حنبل، وسألته الكتاب إلى مشايخها، فكلما فرغ من كتاب قرأته فإذا فيه: وهذا فتى ممن يطلب الحديث، ولم يكتب من أصحاب الحديث.
ذكر فصاحة رسول الله ﷺ
وما يؤثر من حسن بيانه
إن الله جل وعز لما وضع رسوله موضع البلاغ من وحيه، ونصبه منصب البيان لدينه، اختار له من اللغات أعربها، ومن الألسن أفصحها وأبينها، ليباشر في لباسه مشاهد التبليغ وينبذ القول بأوكد البيان والتعريف، ثم أمده بجوامع الكلم التي جعلها ردءا لنبوته وعلما لرسالته؛ لينتظم في القليل منها علم الكثير، فيسهل على السامعين حفظه ولا يؤودهم حمله، ومن تتبع الجوامع من كلامه لم يعدم بيانها، وقد وصفت منها ضروبا، وكتبت لك من أملتها حروفا تدل على ما وراءها من نظائرها وأخواتها، فمنها في القضايا والأحكام قوله: (المؤمنون تَكافأُ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من
1 / 64
سواهم، وقوله: (المنيحة مردودة، والعارية مؤداة، والدين مقضي، والزعيم غارم)، فهذان الحديثان على خفة ألفاظهما يتضمنان عامة أحكام الأنفس والأموال.
ومنها قوله ﷺ: (سلوا الله اليقين والعافية) فتأمل هذه الوصية الجامعة تجدها محيطة بخير الدنيا والآخرة؛ وذلك أن ملاك أمر الآخرة اليقين، وملاك أمر الدنيا العافية، فكل طاعة لا يقين معها هدر، وكل نعمة لم تصحبها العافية كدر، فصار هذا الكلام على وجازته وقلة حروفه أحد شطريه محيطا بجوامع أمر الدين، وشطره الآخر متضمنا عامة مصالح الدنيا.
ضرب آخر:
ومن فصاحته وحسن بيانه أنه قد تكلم بألفاظ اقتضبها لم تُسمع من العرب قبله، ولم توجد في متقدم كلامها، كقوله: (مات حتف أنفه)، وقوله: (حمي الوطيس)، وقوله في المسلم والكافر: (لا تراءى
1 / 65