169

بأنه لم يقسرهم ، أو بأنه أسند فعل الشيطان إلى الله تعالى لأنه بتمكينه وإقداره ، ولا يخفى ما في هذا التوجيه من التكلف ، لأنه انتهاء الكل إلى مسبب الأسباب. ومن هذا القبيل ما قيل : إن النكتة في إضافة الطغيان إليهم هي أن يعلم أن التمادي في الضلالة مما اقترفته أنفسهم ، وأن الله بريء منه ، فإن الانتهاء إلى الله تعالى لما كان ضروريا فكيف يتبرأ من ذلك؟ «

** ويعمهون

والعمه في الرأي خاصة وهو التحير والتردد لا يدري أين يتوجه. وثالثها : قوله «

** أولئك الذي اشتروا الضلالة بالهدى

بدل وأخذ آخر قال أبو النجم :

أخذت بالجمة رأسا أزعرا

وبالثنايا الواضحات الدردرا

وعن وهب قال الله تعالى فيما يعيب به بني إسرائيل : تفقهون لغير الدين ، وتعلمون لغير العمل ، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة. جعلوا لتمكنهم من الهدى بحسب الفطرة الإنسانية الشخصية كأنه في أيديهم ، فتركوه واستبدلوا به الضلالة وهي الجور عن القصد وفقد الاهتداء. وفي المثل «ضل دريص نفقة» أي جحره ، والدرص ولد الفأرة ونحوها ، يضرب لمن يعيا بأمره. فاستعيرت الضلالة للذهاب عن الصواب في الدين. والربح الفضل على رأس المال ، والتجارة مصدر وإنما أسند الخسران إليها وهو لصاحبها إسنادا مجازيا لملابسة التجارة بالمشترين. وقد يقال : ربح عبدك وخسرت جاريتك مجازا إذا دلت الحال. ولما ذكر الله سبحانه شراء الضلالة بالهدى مجازا أتبعه ما يشاكله ويواخيه من الربح والتجارة لتكون الاستعارة مرشحة كقوله :

ولما رأيت النسر عز ابن دأية

وعشش في وكريه جاش له صدري

لما شبه الشيب بالنسر ، والشعر الفاحم بالغراب ، أتبعه ذكر التعشيش والوكر. «

** وما كانوا مهتدين

والربح. وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معا ، لأن رأس مالهم كان هو الهدى فلم يبق لهم مع الضلالة ، والضلالة أمر عدمي فلا عوض ولا معوض ، فلا ربح ولا رأس المال. وهكذا حال من يدعي الإرادة ولا يخرج من العادة ويريد الجمع بين مقاصد الدنيا ومصالح الدين ، كالمنافق أراد الجمع بين عشرة الكفار وصحبة المسلمين ، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم ، وإذا أقبل الليل من هاهنا أدبر النهار من هاهنا نعوذ بالله من الغواية ، ونسأله أن يعصمنا من الضلالة بعد الهداية.

Page 171