وأحست يد أمها النحيلة على كتفها: ماذا حدث لفريد؟ ورفعت عينيها إليها، كان في عيني أمها نظرة غريبة فارتعدت: لا أعلم. لا أعلم. دعيني وحدي يا ماما. وسارت إلى حجرتها وجلست على طرف السرير تمسك رأسها بيديها، ودق جرس التليفون فانتفضت؛ إنه هو حتما، سيأتي صوته الغليظ الصدئ من خلال الأسلاك، سيأتي حتما، فلماذا لا يختل توازن الأرض ويقع التليفون وينكسر؟ لكن الأرض تدور بغير خلل أو كلل، والتليفون لن يقع ولن ينكسر، وسيأتي صوته حتما من ثقوب السماعة، كما تأتي الريح من ثقوب الباب، سيأتي حتما بغير خلل أو كلل، وستلسع مرارته حلقها وستملأ رائحته الصدئة أنفها، فلماذا لا ترتدي ملابسها وتهرب؟
ورفعت جسمها الثقيل ونهضت، وارتدت ملابسها، ورأت عيني أمها تنظران إليها في صمت، كانت فيهما نظرة غريبة، وتعثرت خطواتها وهي تفتح الباب ووقفت تنظر إليها لحظة، كان يمكن أن تبقى معها، كانت تريد أن تبقى ولكنها فتحت الباب وخرجت.
سارت في الشارع تجر جسمها جرا، لم تكن تفكر في شيء كان رأسها هادئا؛ ليس هدوءا بمعنى الهدوء، ولكنه كان نوعا من الشلل، كذلك الذي يصنعه المخدر المركز بخلايا المخ.
وتركت قدميها تسيران وحدهما بغير إشراف من رأسها، ولماذا الرأس دائما، لماذا لا يكون العقل في الساقين؟ الرأس لا يفعل شيئا سوى أن يحمل فوق الأكتاف ثم يحكم ويتحكم، والساقان تقومان بالعبء وتحملان الرأس والكتفين والجسم بأكمله ثم لا تحكمان أبدا، كما يحدث في الحياة. الذين يعملون يكدحون ولا يحكمون، وتبقى الرءوس محمولة فوق الأعناق تقطف الثمار وتصدر الأحكام.
كلمات فريد مرة أخرى تعود، ونبرة صوته، وحركة يديه لا تزال باقية في رأسها. لماذا تبقى وهو غائب؟ كيف تصنع تلك الحركة في رأسها وتعود تدب من جديد؟
وسارت بحذاء المشتل، وصعدت رائحة الياسمين إلى أنفها، وعادت أنفاس فريد على وجهها برائحتها وسخونتها، وعاد ملمس شفتيه فوق عنقها، ورفعت يدها الصفراء لتلمس وجهه، لكن يدها ارتجفت في الهواء ثم سقطت إلى جوارها.
كان النيل كما كان دائما، راقدا محنطا بجسمه الطويل ذي التجاعيد، ينثني بخمول كمومس عجوز، مستسلما راضيا متكيفا، وتلفتت حولها، كان كل شيء هادئا مستسلما متكيفا. وهي هل يمكن أن تتكيف؟ هل يمكن أن تصبح واحدة من تلك الرءوس المحنطة في المكتب؟ هل تضع اسمها فوق بحث لم تجره كما يفعل الناجحون واللامعون؟
وحلقت بعينيها في السماء والأرض. ماذا كانت تريد منذ البداية؟ لم تكن تريد شيئا. لم تكن تريد أن تنجح أو تلمع، كانت تحس فحسب، تحس أن فيها شيئا ما ليس في الآخرين. إنها لن تعيش وتموت ويبقى العالم كما هو. كانت تحس في رأسها حركة، فكرة جديدة، لا تعرف كيف تنطق بها، الفكرة كانت في رأسها صاحية وحية، لكنها لم تكن تخرج، كأنما كانت تصطدم بجدار سميك، أكثر سمكا من عظام رأسها.
كانت كلها أحاسيس، ولكن ما بداية أي شيء جديد؟ كيف بدأ أي مكتشف غير العلم أو التاريخ؟ أليست البداية أحاسيسها؟ وما هو الإحساس؟ فكرة مبهمة، حركة غامضة في خلايا المخ. نعم؛ ألا تكون البداية دائما حركة غامضة في خلايا المخ، لماذا إذن تهزأ بأحاسيسها؟ لماذا تكذبها؟ ألم تحس حين رأت الساعاتي لأول مرة أنه لص؟ أخدعت أحاسيسها بالعمارة الشاهقة والسيارة الطويلة؟ هل غيرت الهيئة العليا والمجلس السياسي وكلام الصحف من أحاسيسها الأولى؟ ألم تظل رغم كل هذا تنظر في عينيه الجاحظتين وتحس أنه لص؟ ألم تلتقط خلايا مخها ذلك الكذب اللامرئي في ذبذبة عينيه؟ لماذا إذن تهزأ بأحاسيسها؟
وتوقفت لحظة عن السير وسألت نفسها: هل شكت في أحاسيسها أبدا؟ ومتى بدأت تشك؟ متى؟ وتلفتت حولها، واصطدمت عيناها بباب المطعم الصغير وتذكرت، أنها تلك الليلة، تلك الليلة المظلمة المتربة. حين دخلت المطعم ورأت المائدة خالية عارية بغير فرش، والهواء يضربها من كل ناحية كجذع شجرة مبتور.
Unknown page