وحملت الورقة، ويدي تنوء بها، وكذلك قدماي، وتسكعت خائفا نحو اللوكندة؛ فإذا بي أسمع عودة من خلفي يخاطبني مقهقها: «والله يا ابن أخي، لو أن تحتك حصانا لكنت تشبه سلطان الأطرش قاحما قلعة السويداء.»
ضحكت ملء رئتي، لأول مرة، منذ أن أعلنت الحرب، وانتصبت في الصف الطويل، وليس أمامي إلا نحو من عشرة أشخاص، فلما جاء دوري دخلت إلى غرفة ضابط ياباني، وضع سيفه الطويل أمامه على الطاولة، وحف به ضابطان آخران، ويابانيان في لباس المدنيين.
وانحنيت باحترام من الوسط شأن من يحيي أي جندي ياباني.
أكثر الناس يبغضون ما لا يمتلكون، والياباني قصير، دميم، صفراوي، سحنته عكر وتعقد، وأنا طويل، سمين، أبيض، وفي وجهي صفاء وشموخ؛ لذلك لم أستغرب إذ صوب إلي الخمسة عيونا لهابة تتدفق بغضا، نظرات يابانية معادية كاسحة استمرت تلطمني وتحرقني كل يوم خلال ما يقارب سنوات أربعة تلت. وفهمت فورا، من غير أن أنظر إلى ما تكوم على الطاولة، حيث سمعت أحد اليابانيين يصيح: «بسطبورزو!» أنه يريد الباسبورت؛ ذلك أن من عاهات الياباني أن لسانه لاصق في فمه يرتطم بالألفاظ ارتطاما، ويقذفها من بلعومه، وهو يزيد «الزاي»، و«الواو» أبدا على الكلمات؛ فكلمة بيروت مثلا تصبح «بيروتزو»، وربما جاءت بيطرزو، أو طبورزو، فلا عجب أن تقمص الباسبورت إلى بسطبورزو.
واشرأب الخمسة مدمدمين حين لم أضع بين يدي الضابط باسبورتا عاديا شأن سائر الأجانب، بل ورقة هوية؛ ذلك أنني حين وصلت الفلبين في كانون الثاني سنة 1926 أبى القنصل الفرنسي أن يسجل اسمي؛ لأن لفظة «درزي» ظهرت على باسبورتي، وكانت الثورة في أوج شدتها، والقنصل الفرنسي في «مانيلا» في ذروة لؤمه؛ فاستعضت عن التسجيل في القنصلية الفرنسية بورقة هوية من الحكومة الفلبينية أعلنت فيها عن جنسيتي بلفظة «عربي».
وتماوج بحر الكلام مدا وجزرا بين الصفر الخمسة، ولم أفهم من الحديث إلا لفظة آرابيان (عربي)، ولحظت أن عيونهم بدأت ترمقني بشيء من الود والاحترام.
الياباني حيوان ليس فيه من العاطفة إلا بهيمية الكواسر، هو لا يقبل زوجته، ولا يداعب حبيبته، ولا يطرب للغناء إلا متى سكر، ليس له صديق، ولاؤه لإمبراطوره وإمبراطوريته هو ولاء العبد لسيده، وليس ولاء الإنسان لعقيدة أو مثالية. علمه، واختراعاته، وثقافته، كلها تبرج سطحي وتسلح. تأدبه، ودعته، وكياسته، هي بعض أساليبه الدفاعية. نفسه وحشية لا تجد نشوة إلا في القتل والتدمير والقهر والفتوحات؛ إذن فحين أقول لك إن اليابانيين الخمسة الصفر أظهروا «الود والاحترام» لشيء اسمه «العروبة» فمعناه أنهم أخفوا المخالب والنواجذ، ولم يبطشوا.
أما عطفهم على «العروبة»، فلسببين؛ أولهما - وهذا استنتاج وتخمين - أنهم حين أراد قادتهم تقوية الفروسية في نفوسهم، وترسيخ عقيدة البأس - ويسمونها «بوشيدو» - عمدوا إلى تدريسهم تاريخ البطولات القديمة، ومنها البطولة العربية. أما السبب الثاني، فكان أن ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق، وإذاعات بعض تجارنا في اليابان، أوهمت الكثيرين من اليابانيين أن العرب موالون لدول المحور.
وخفتت دمدمتهم شيئا ما، ورحت أملأ ورقة أسجل فيها سيرتي، وأجبت على سؤال: «ما هي اللغات التي تعرفها؟» بجواب: «العربية، الإفرنسية، الإسبنيولية، الإنكليزية»، ودارت عيونهم المزججة تحدق بأجوبتي، كأنما هي طلاسم، وعلت الهمهمة من جديد، وشعرت كأنهم في مرح، وهم يرددون لفظة «مورا كامي، مورا كامي». وأفهمني الترجمان أنني ما دمت أتكلم الفرنسية فمن الضروري أن أجتمع بالكولونيل «مورا كامي»، وهو يجيد الفرنسية كأحد أبنائها؛ إذ إنه سكن الهند الصينية سنوات عديدة، ونهض أحد اليابانيين مشيرا إلي أن أتبعه إلى الكولونيل «مورا كامي». وقد ذكرت أن الياباني شليل اللسان، يتكلم من بلعومه؛ لذلك هو يزدهي بكل مواطن له يجيد لغة أجنبية.
أما أنا فمشيت نحو هذا الكولونيل الذي يتكلم الفرنسية كأحد أبنائها خائفا أن يفتضح أمري؛ فإن معرفتي للغة الفرنسية هي من مخلفات دراسة قروية شردها الإهمال، وهدمتها وبعثرتها الأعوام، ومثلت أمام الكولونيل «مورا كامي» حتى انتهى الترجمان من همدرته وطنينه، وكنت أسمع لفظة «آرابيان، آرابيان، آرابيان» وانصرف. وأقبل الكولونيل نحوي - وهذا تكريم غير عادي - وانحنى، وهش بأنفاسه نحو رئتيه - وهذا نهاية التكريم الياباني - ومغزاه أنني أقدس من أن تطالني أنفاسه، ثم احتقن وجهه، واهتزت نظارتاه، وأحسست أن طابة من الكلام تنتفخ، وتتسلق زلعومه، متضخمة، فلما بلغت فمه انفجرت منه قنبلة سمعتها: «جبرونزو»، وأرهف الله في تلك اللمحة ذهني، فعلمت من فوري أن الكولونيل يريد أن يقول بونجور، وأنه لا يملك من اللغة الفرنسية أكثر مما يملك سعيد فريحة من أسهم الكوكا كولا، فأجبته بطلاقة وفصاحة: «بونجور مون كولونيل.» وشعرت إذ رحت أتكلم الفرنسية بثقة في النفس، كأني تلك الأرتيست التي تقدم «النومرو» على مذياع البيسين في عالية.
Unknown page