فلم يجب، وتطلعت إليه فإذا بوجهه - للمرة الأولى - بلون وجه الجثة، وإذا به يحاول بلع ريقه، وأعدت السؤال فلم أظفر بجواب، وإذا بجهنم تنفجر من السماء فوقنا قنابل، ورصاصا، وهدير محركات، وطائرات تعصف وتقصف، وتنقض، وتأز صعودا وهبوطا، وشظايا القنابل لها عنين وغلغلة، وأشجار الصنوبر تتقصف وترتمي، وفي الملجأ صراخ وبكاء وعويل وصلوات وشتائم.
ثم حدث ما كانوا يقولون لنا إنه يسبق الموت، فسمعنا صفير القنبلة - هذه متى سمعتها يعني أن اسمك مكتوب عليها وأنها قاصدة إليك - وعصفت بالملجأ ريح سخنة فتهدم جانبه الأيسر، وتطلعت فإذا «لودي» ابنة مخيبر - وهي في السابعة من عمرها - قد طمرها التراب إلى كتفها فبان فوق التراب رأسها، وقد تقززت عيناها، وصرخت صرخة ظننتها من غير هذه الدنيا.
وتعاونا على نبش الفتاة من التراب، فإذا هي والحمد لله سليمة.
بقينا على هذا المنوال من التاسعة صباحا إلى نحو الرابعة بعد الظهر حين صمت أزيز الطائرات.
واحتملنا أنفسنا من الملجأ إلى الخارج، فإذا بمكتب حسني شجر مقطوع، وإذا على نحو عشرين مترا منا هوة حفرتها القنبلة التي كادت تذهب بنا، وإذا الشمس كأنها مكسوفة والجو ملؤه غبار أحمر - لون تربة باغيو - وورق أبيض لا أدري من أين ثار، وإذا بالمدرسة الزراعية وما حولها تتطاير شبرا شبرا بتفجيرات متتابعة.
الظاهر أن اليابانيين عادوا فخبئوا الذخائر سرا في المدرسة المهدومة، وأن الطائرة البرغشية اكتشفت الأمر بالمنظار أو الصورة، فجاءت أربع وستون طائرة تفرش بساطا من القنابل إطارا بأربعة كيلومترات مربعة من الأرض، وكاد يطيح بنا معها. (في كتاب مقبل سأسرد كيف كان العيش بين المخاطر، من طائرات تضرب، ومدافع تقصف، وشراذم جنود يابانية مهزومة تفظع، إلى أن جاء يوم سمعنا به أن في الجبال دربا ضيقا بين الأحراج «شريك» كانت تستعمله القبائل فيما مضى، وهو يصلح أن يكون طريقا للفرار إلى المعسكر الأميركي؛ فقررنا نحن الثلاثة - حسني الحلبي، ومخيبر كيروز، وأنا - أن نهرب بعائلاتنا. وكان من الأسباب التي حدت بنا إلى هذا القرار فراغ النقود، ونفاد الزاد، والاعتماد على المقدر. كل هذا سيظهر في كتاب مقبل، أما الآن فنحن في مانيلا عاصمة الفلبين مع بضعة آلاف من الأجانب في ضيافة الجيش الأميركي.)
وعاودتني الأزمة المالية، كيف لا وعلبة السكاير ثمنها دولاران، وبرحت في مظاهر الدمار؛ فالمدينة (مانيلا) أكثرها طلول سوداء، وبرمنا بحياة الخيمة في المعسكر، وقد ذهبت عنا نشوة الفرح بالنجاة، وأبواب الرزق مقفلة، ولا أخبار عن لبنان تطمئننا عن الأهل. وأكثر أحبائنا قتلى؛ إيليا الأخرس، بشارة جريديني، عبد الله الحداد ... وسواهم كثيرون.
ويوما رجعت من المدينة إلى المعسكر أجر حذائي العسكري على أسفلت الطريق الملتهب، ودخلت الخيمة فإذا على مخدتي ورقة سمرت بدبوس لمحتها مكتوبة بالعربية، فتناولتها بلهف وقرأت فيها:
أنا رامز عبد الحليم صعب من الشويفات في الجيش الأميركي، لم أجدك في خيمتك، ولكن يهمني أن أجتمع بك، سأكون في البار الفلاني خلال الساعتين المقبلتين.
أخوك رامز
Unknown page