بارحت إنكلترا في أواسط الربيع مع صديقي إدوار قصد التجول في نواحي إيطاليا، وذلك إذعانا لأمر الطبيب الذي ما برح منذ شفيت يحثني على التجول والترحال ترويحا للنفس وتنزيها للخاطر. وأول مدينة أتيناها هي تورين، فصرفنا فيها زهاء أسبوع متجولين في شوارعها العظيمة ومنتزهاتها الجميلة معجبين بمشهد بناياتها الشائقة وقصورها الشاهقة، وكنائسها العظيمة التي زاد منظرها إجلالا تقادم عمدها واتساع هياكلها.
فبينما كنا ذات يوم نتنزه بين الأشجار على ضفة جدول بهج تجري مياهه بسرعة فوق حصباء كالدر، وقد نقش الريح على الماء زردا، وهز معاطف الأغصان فتمايلت عجبا، وغردت الأطيار على أفنانها فازددنا طربا، ووقفنا برهة نمتع النظر بمشاهدة عجائب الكون وجمال الطبيعة، وأفكارنا سابحة في تيار التأملات اللذيذة، إذ أوقف مجرى تأملي في بدائع الكائنات سماع وطء أقدام خفيفة، فالتفت وإذا بغادة هيفاء قامتها نجلاء مقلتها لا يشتكي منها قصر ولا طول، وهي من أجل ما وقع نظري عليه من الجنس اللطيف، مرت سريعا بالقرب منا تصحبها امرأة مسنة. فذهلت لمرآها ووددت لو أني استوضحت محياها جيدا، فأتبعتها النظر حتى توارت داخل باب دير الكاثوليك، وكان حينئذ وقت الصلاة. فاتفقت مع رفيقي على اتباعها، ثم ذهبنا وكلانا متشوق لرؤيتها، فلما دخلنا الدير جلست على مقعد خشبي بعزلة عن الناس، وأول شخص وقعت عيني عليه عندما أجلت نظري بالجموع كان تلك الحسناء، فتأملتها طويلا وإذا بها جالسة بهدو تام مطرقة إلى الأرض لا تميل برأسها إلى جهة ما. وقد حاولت عبثا أن أرى وجهها جليا، فلم أظفر إلا بجانب منه، فألفيته ذا بشرة بيضاء ضاربة إلى الصفرة، وقد تدلى فوقه خصلة من شعرها الحالك السواد المتجمع في أم رأسها على أجمل هيئة وألطف زي، فزاد منظرها هذا وقارا وجمالها كمالا. وإني لأقول إنها إنكليزية الأصل لما ظهر لي من هيئة ملابسها، غير أن تلك الخادمة المرافقة لها تدل ملامحها صريحا على أنها إيتاليانية. وبقدر ما كانت الفتاة ذاهلة غير مكترثة بالصلاة تتلاطمها أمواج الأفكار، كانت الأخرى ساجدة مواصلة التضرع بدموع حارة كأنها مجرمة وشاعرة بثقل نير خطيئتها، فأتت تلتمس من الباري عفوا ورحمة.
وعقيب أن أنهت الخادمة الصلاة، تحفزت للنهوض وأشارت بذلك إلى الفتاة فأطاعتها، ولم تنبس ببنت شفة. فهرعت مع رفيقي إلى الباب ننتظرهما، فرأيت على مقربة منا كهلا ربع القامة عريض الكتفين واقفا بهيئة تدل على أنه بانتظار أحد، ثم رأيت الخادمة مقبلة والفتاة إلى جانبها، فتقدمت الأولى لتدهن جبهتها بالماء المقدس كما هي العادة، وظلت الفتاة واقفة تنتظرها برهة تمكنت بأثنائها من مشاهدة وجهها دون مانع، فإذا هو من أجمل ما يتصوره العقل، ذات عينين سوداويين وأهداب طوال ترمي الناظر إليها بنبال عن قوسي حاجبها، ولها نظرات حادة تدل على أن داخل تلك الجبهة الناصعة البياض والمكللة بتاج الرصانة والجمال فكرا عميقا وسرا عظيما. وبعد أن رسمت الخادمة إشارة الصليب تقدمت نحوها وذهبتا سوية.
وبعد أن خرجنا من الكنيسة دنا منهما ذلك الرجل الذي رأيته قبلا، فاندهشت الخادمة لرؤيته ثم حيته مقبلة يده. أما الفتاة فلم تنظر إليه باهتمام، بل فتحت شفتيها الأرجوانيتين كأنها تريد التكلم، ثم أعرضت عن ذلك، ومالت برأسها اشمئزازا، وإذ ذاك وقع نظرها على نظري، وقد أرسلت أهدابها ظلا خفيفا على خدها العاجي، فما كانت لتبارح ذهني قط تلك الهيئة الملائكية.
وفي أثناء هذه الفترة كانت الخادمة قد أنهت حديثها مع ذلك الرجل، فذهب وهو ينظر إليها كمن يعيد أمرا على الآخر لإتمام طلبه، فأجابته بإشارة من رأسها تعني بأنها قد فهمت المغزى من تلك النظرة، ثم تقدمت من الفتاة وجذبتها من ذراعها بلطف وسارتا، فقلت لرفيقي: أنظرت هذه الحسناء؟ قال: نعم، وهي على جانب عظيم من الجمال. - إن هذا المحيا لأبدع ما رأيت في حياتي، ولكن أمرا يشوه جماله. - هل جرت العادة عند رجال الإنكليز أن يصفوا جمال هذه وقباحة تلك بينما هم على الطريق؟ أم هذه عادة الإيتاليان؟
طرقت آذاننا هذه الكلمات بصوت جهوري صادر من رجل بالقرب منا فالتفتنا نحوه، وإذا هو شاب في الثلاثين من عمره طويل القامة، ينبعث من عينيه أشعة الخبث والدهاء، فعزمت أن أبطش به لو لم يتداركني رفيقي ويخاطبه برقة قائلا: لقد أجمع رأي العالم قاطبة على استحسان كل ما هو حسن والعكس بالعكس، ومع ذلك فإذا كنا أتينا أمرا منكرا نرجو أن يقبل عذرنا لدى حضرة السيدة وجناب قرينها أو أخيها. فقال الغريب: إني لست أحدهما. - إذن فنسيبها أو صديقها، وعلى كل يسرنا أن نراك تبالغ في الغيرة عليها.
قال رفيقي ذلك بلهجة الساخر، وأدار ظهره دون أن ينتظر جوابا، فلبث الغريب شاخصا إليه بعينين يتطاير منهما الشرر لما ألحق به من الاحتقار. وأما أنا، فعندما عاينت منه ذلك توقفت عن المسير خوف أن يغدر به ذاك الشقي، ولكنه وجد أخيرا أعقل مما ظننته لأنه ما عتم أن سار في طريق غير التي سلكناها. وبهذه الفترة التي أضعناها بمجادلة ذلك الرجل كانت الفتاة قد توارت مع رفيقتها عن العين، ولم ندر في أي طريق سارتا، وقد خجلت أن أسأل رفيقي الإسراع بالمسير واللحاق بهما، ووددت لو أكون وحدي فأتبعهما وأستعلم عن اسمها ومحل سكنها، ولكن كان لي أمل أن أراها مرة أخرى، وحينئذ لا تفوتني الفرصة لإتمام رغائبي.
ما كل ما يتمنى المرء يدركه؛ فإني كثيرا ما ترددت إلى ذلك المكان ولم يتح لي الحظ أن أراها هناك. وأخيرا يئست من مصادفتها واستولى علي حزن عميق، وكنت كيفما أذهب وكل ما أراه من الغرائب لا يشغل ذهني أو ينسيني ذلك الوجه الجميل، وأحيانا أسخر من نفسي ومن الضعف الذي استولى علي، فتمكنت من قلبي صورة من لم أرها أكثر من مرة واحدة ومن لم أخاطبها قط أو أعلم عن حقيقة أحوالها أمرا، فأناجي نفسي قائلا: ما لك يا جلبرت ولهذه الفتاة المجهولة لديك؟ وما يجديك التفكر بها سوى التعب والبلاء؟ وما يدريك أنها ليست ذات بعل وأنها حرة الفؤاد، وكيف كان الحال فليس لك أمل برؤيتها ثانية، فالأجدر بك أن تنساها. غير أني تأكدت بعد قليل أني غير قادر على ذلك؛ لأنني كلما طردت ذكرها من ذهني ازداد إليه ترددا أو حاولت إمحاء رسمها من ذاكرتي انتصب طيفها اللطيف أمام عيني.
ودامت لي الحال على هذا المنوال نحو عشرة أيام أعلل النفس بلعل وعسى، إلى أن رأيت إصرارا من صديقي على مبارحة تلك المدينة حيث لم تعد تسمح له الظروف بإطالة المكث، فبارحناها وفي النفس حسرة لمفارقة أرض نبتت فيها زهرة آمالي، فسرنا إلى جينوى ثم إلى فلورنسه فروميه ونابولي ومنها توا إلى جزيرة سيسيليا، وعرجنا على بعض أمكنة، ثم رجعنا إلى لندره وكان قد مضى أكثر الصيف.
وفي صبيحة اليوم الثاني شيعت صديقي إدوار إلى شاطئ البحر حيث توجه إلى بلاد اسكوتلاندا لأشغال دعته إليها. فما كان فراقه إلا ليزيد فؤادي انكسارا وقلبي حزنا وتعذيبا. فجلست على صخر كبير منفردا عن الناس أتأمل بالأمواج المتلاطمة وهي تتقلب متقدمة نحوي باسمة متلألئة بأشعة الشمس المنعكسة على سطح الأوقيانس العظيم، ثم ترتد إلى الوراء ويتفرق شملها كبنات نعش، فأثر بي هذا المنظر تأثيرا عظيما، وعاودني ذكرى ذلك المنظر البهج الذي شاهدته في إيطاليا؛ لأنه يحاكيه جمالا لوجود تلك الغانية. فقلت في نفسي: ما كان أسعدني لو أراها الآن بعين الحقيقة لا بعين الخيال الذي قد طال علي تردده فأذاقني صنوف العذاب ... ليتني بقيت أعمى ولم تقع عيني على سبب هيامي ومصدر همومي، فكان أولى بي أن أحيا تعيسا من أن أموت شهيدا، ثم فاضت مدامعي وجعلت أنوح كالثكلى.
Unknown page