1
كذلك، وللثياب الجرجانية كذلك، وللأصفهانية مثل ذلك، وللعنابي والمغاجر
2
المدهشة والستور المكللة، ويصنع بها من صنوف آلات الحديد والنحاس والزجاج ما لا يوصف».
وكان الديباج والوشي يعمل أولا في قرطبة، ثم غلبت عليها ألمرية، فلم يتفق في الأندلس من يجيد عمل الديباج إجادة أهل ألمرية، وانفردت سرقسطة بصنعة السمور ولطف تدبيره وهي الثياب الرقيقة المعروفة بالسرقسطة خصوصية لأهل هذا الصقع «وفي جميع نواحيها يعمل الكتان والحرير الفائق» وكان في جيان 600 نول للحرير، ويعمل السجاد في رية والسلاح والحلي في قرطبة ومرسية وطليطلة وسرقسطة، وأخذت شاطبة تصدر الورق بكثرة منذ سنة 1009، قال ياقوت: وفي شاطبة يعمل الكاغد الجيد، ويحمل منها إلى سائر بلاد الأندلس، وبالجملة فلأهل هذه الديار «خصائص كثيرة، ومحاسن لا تحصى، وإتقان لجميع ما يصنعون» قال ميجون: كانت في الأندلس عدة معامل مشهورة لصنع الفسيفساء، ويسمونه المفصص، ونقلت صناعة الفسيفساء عن الرومان.
وهكذا رسخت الصنائع في أمصار الأندلس برسوخ الحضارة، وطول أمدها، قال ابن خلدون: «فإنا نجد في الأندلس رسوم الصنائع قائمة وأحوالها مستحكمة راسخة في جميع ما تدعو إليه عوائد أمصارها كالمباني والطبخ، وأصناف الغناء واللهو من الآلات والأوتار والرقص، وتنفيذ الفرش في القصور، وحسن الترتيب والأوضاع في البناء، وصوغ الآنية من المعادن والخزف، وجمع المواعين، وإقامة الولائم والأعراس، وسائر الصنائع التي يدعو إليها الترف وعوائده، فنجدهم أقوم عليها وأبصر بها، ونجد صنائعها مستحكمة لديهم، فهم على حصة موفورة من ذلك وحفظ متميز بين جميع الأمصار.»
وذكر سيديليون أن العرب من حيث الأخلاق والعلم والصناعة كانوا أرقى بكثير من الإسبان، وهم أمتن أخلاقا وطبائع، وفيهم الكرم والإخلاص والإحسان الذي لم يكن عند عداتهم، كما أن فيهم عزة النفس التي امتازوا بها في كل زمن، وكان الإفراط المضر فيها داعيا إلى إحداث البراز، وساعد على عظمة العرب في إسبانيا انتشار الآداب والعلوم والفنون على عهدهم انتشارا كبيرا، وكذلك الزراعة والصناعة، وعم الذوق في اللذائذ العقلية جميع طبقات المجتمع، والشعر يرقي النفوس، وغدت المنافسة الشريفة على أتمها في الأفكار، وكانوا يكتبون على جميع المصانع اسم من أمر ببنائها واسم بانيها، والأمة تمدح المحسن لبنائها، وارتقت عندهم الهندسة والموسيقى والرقص إلى درجة ذات بال، ولا يزال إلى اليوم في الغرب يدرس أسلوب بنائهم، ويعجب بما نقشوه فيها من النقوش، وكان لدولة الموحدين في الأندلس ذوق خاص في البناء؛ أنشئوا الجوامع والمآذن والأماكن العامة والمستشفيات والرباطات في كل بلد من بلادهم، وأقاموا الطرق والجسور والسدود، وحفروا الآبار، وأجروا الأنهار. ا.ه.
ولقد كانوا يستخرجون من مناجمهم الزئبق والتوتيا والحديد والرصاص والفضة والذهب، ويستقطرون السكر، ويعملون اللبود «المشهور في جميع الأرض بالجودة والصبغ والحسن. ولهم من الألوان والأصباغ والحشائش التي يلون بها الحرير وأنواع الصوف والثياب ما ليس في بلد من بلدان الأرض له نظير حسنا وكثرة»، ويحملون حاصلاتهم ومصنوعاتهم إلى أقطار المملكة العربية؛ بل إلى أقاصي البلاد الشرقية والغربية في البحار على سفن الأندلسيين التجارية، وكان لهم أساطيل في كل فرضة من فرضهم تقلع على الدوام من مواني الأندلس؛ لتحمل إلى شواطئ إفريقية وآسيا وأوروبا ما يروج فيها من سلعهم ومعادنهم وثمارهم وحبوبهم.
قال كاباتون: كانت مدنية العرب في إسبانيا ظاهرة في الأمور المادية، وذلك بما استعملوه من الوسائط الزراعية لإخصاب الأراضي البائرة في الأندلس من الأساليب العلمية التي اتخذوها لريها، وهي أساليب إن لم تكن من اختراع العرب فهم الذين أكملوا نواقصها، وأحسنوا استخدامها، كما أنهم أسسوا معامل للحرير والجلود والبللور وغزال الصوف والقطن والكتان والقصب، وأقاموا ما لا يحصى من المعاهد العامة، وفيها ما يستدعي إعجاب الأمم بأسرها حتى بعد ثمانية قرون من إنشائه. ا.ه.
وقال أحد علماء الفرنجة: كان في الأندلس على عهد الحضارة العربية أربعون مليون نسمة من أرباب الصنائع والعمل (سكان إسبانيا اليوم 21 مليونا، وسكان البرتغال 6 ملايين) وعلى ذلك العهد قامت فيها المدن المهمة التي يعجب الناس إلى اليوم بحرائبها، وعلى ذاك العهد كانت الزراعة ناجحة، وبفضل هندسة العرب كانت المياه تجري إلى كل مكان في بسائطها فتحمل الخصب والإمراع، وقال آخر: إن عهد استيلاء العرب على إسبانيا كان أسعد أيامها؛ لنجاح زراعتها بما قام فيها من أعمال السقيا، وبفضل غراسهم وزروعهم، وحسن استثمارهم لمعادن الأرض ومناجمها، ولما اغتنت البلاد كثر فيها سكان الدساكر والقرى كما كثر سكان المدن الكبرى.
Unknown page