Al-Futūḥāt al-Makkiyya fī maʿrifat al-asrār al-malikiyya
الفتوحات المكية في معرفة الاسرار الملكية
Publisher
دار إحياء التراث العربي
Edition Number
الأولى
Publication Year
1418هـ- 1998م
Publisher Location
لبنان
في شكله وعلى ترتيب صورته . . . وإن تميز فالمعنى يقاربه قال الله تعالى ' ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقوها ' من قوله أيضا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا فجعل النفس محلا قابلا لما تلهمه من الفجور والتقوى فتميز الفجور فتجتنبه والتقوى فتسلك طريقه ومن وجه آخر تطلبه الآية وهو أنه بما ألهمها عراها أن يكون لها في الفجور والتقوى كسب أو تعمل وإنما هي محل لظهور الفعل فجورا كان أو تقوى شرعا فهي برزخ وسط بين هذين الحكمين ولم ينسب سبحانه إلى نفسه خاطر المباح ولا إلهامه فيها به وسبب ذلك أن المباح ذاتي لها فبنفس ما خلق عينها ظهر عين المباح فهو من صفاتها النفسية التي لا تعقل النفس إلا به فهو على الحقيقة أعني خاطر المباح نعت خاص كالضحك للإنسان وإن لم يكن من الفصول المقومة فهو حد لازم رسمي فإن من خاصية النفس دفع المضار واستجلاب المنافع وهذا لا يوجد في أقسام أحكام الشرع إلا في قسم المباح خاصة فإنه الذي يستوي فعله وتركه فلا أجر فيه ولا وزر شرعا وهو قوله ' وما سواها ' من التسوية وهو الاعتدال في الشيء ' فسواك فعدلك ' يمتن بذلك على الإنسان وما في أقسام أحكام الشريعة قسم يقتضي العدل ويعطي الاعتدال إلا قسم المباح فهي تطلبه بذاتها وخاصيتها فلذلك لم يصفها بأنها ملهمة فيه وما ذكر سبحانه من الملهم لها بالفجور والتقوى فأضمر الفاعل فالظاهر أن الضمير المضمر يعود على المضمر في سواها وهو الله تعالى ومن نظر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن للملك في الإنسان لمة وللشيطان لمة يعني بالطاعة وهي التقوى والمعصية وهي الفجور فيكون الضمير في ألهمها للملك في التقوى وللشيطان في الفجور ولم يجمعهما في ضمير واحد لبعد المناسبة بينهما وكل بقضاء الله وقدره ولا يصح أن يقال في هذا الموضع أن الله هو الملهم بالتقوى وأن الشيطان هو الملهم بالفجور لما في هذا من الجهل وسوء الأدب لما في ذلك من غلبة أحد الخاطرين والفجور أغلب من التقوى وأيضا لقوله تعالى ' ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ' فإنه في تلك الآية ظاهر الاسم والسيئة فيها ما هي شرعا فتكون فجورا وإنما هي مما يسوءه ولا يوافق غرضه وهو في الظاهر قولهم فإنهم كانوا يتطيرون به صلى الله عليه وسلم أعني الكافرين فأمره سبحانه أن يقول كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا أي ما يحدث فيهم من الكوائن يقول الله عنهم أنهم يقولون أن تصبهم حسنة يقولوا هذا من عند الله وإن تصبهم سيئة أي ما يسوءهم فمن عندك قل كل من عند الله وهو قوله ' طائركم عند الله ' فالفاعل في ألهما مضمر فإن كان الله هنا في الضمير هو الملهم بالتقوى والشيطان هو الملهم بالفجور فقد جمع الله والشيطان ضمير واحد وهذا غاية في سوء الأدب مع الله وما أحسن ما جاء بالواو للعاطفة في قوله وتقواها فتعالى الله الملك القدوس أن يجتمع مع المطرود من رحمة الله في ضمير مع احتمال الأمر في ذلك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس الخطيب أنت لما سمعه قد جمع بين الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في ضمير واحد فقال ومن يعصهما وماا قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جمع بين الله وبين نفسه في ضمير واحد إلا بوحي من الله وهو قوله ' من يطع الرسول فقد أطاع الله وقال وما ينطق عن الهوى ونحن يلزمنا ملازمة الأدب فيما لم نؤمر به ولا نهينا عنه كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله بئس الخطيب أنت وكذلك لا يترجح أن تنسب الإلهام بالفجور إلى الله فلم يبق بعد هذا الاستقصاء أن يكون الضمير في ألهمها بالفجور إلا الشيطان وبالواو بالتقولا إلا الملك فمقابلة مخلوق بمخلوق أولى من مقابلة مخلوق بخالق وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس الخطيب كفاية لمن أبان الله بصيرته فقد أعلمك برتبة نفسك وأنها ليست بأمارة بالسوء من حيث ذاتها وإنما ينسب إليها ذلك من حيث أنها قابلة لإلهام الشيطان بالفجور ولجهلها بالحكم المشروع في ذلك كنفس أمرت صاحبها بارتكاب أمر لم تعلم تحريمه في الشرع أو قامت عندها شبهة بإباحة ذلك فيراه من مذهبه التحريم فيقول إن النفس لأمارة بالسوء كشرب النبيذ بين محلله ومحرمه ونكاح الربيبة التي لم يجتمع فيها الشرطان ومثل هذا في الشريعة كثير وكلا المذهبين شرع مقرر صحيح إذا كانا عن اجتهاد مع أن أحدهما أخطأ دليل الشارع الذي حكم به تلك المسئلة أولو حكم فيها والمجتهدان مأجوران وقد يكون في المسئلة أحد المجتهدين مصيبا وقد يكون كل واحد منهما مخطئا فإن الحكم في تلك المسئلة شرعا ليس بمنحصر ثم إن قول الله تعالى ' إن النفس لأمارة بالسوء فما هو حكم الله عليها بذلك وإنما الله حكى ما قالته امرأة العزيز في مجلس العزيز وهل أصابت في هذه الإضافة أو لم تصب هذا حكم آخر مسكوت عنه بل الذي هو لها إنها لوامة نفسها إذا قبلت من الشيطان ما يأمرها به فهذا الإخبار عن النفس أنها أمارة بالسوء ما هو حكم الله عليها ولا من قول يوسف عليه السلام فبطل التمسك بهذه الآية لما دل عليه الظاهر والدليل إذا دخله الاحتمال سقط الاحتجاج به وأما قوله تعالى في هذا المقام ' كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك فهو إبانة عن حقيقة صحيحة بما هو الأمر عليه في نفسه من أنه لا حول ولا قوة إلا بالله وقوله ' وما كان عطاء ربك محظورا ' أي ممنوعا يقول إن الله يعطي على الدوام والمحال تقبل على قدر حقائق استعداداتها كما تقول أن الشمس تنبسط أنوارها على الموجودات وما تبخل بنورها على أحد وتقبل المحال ذلك النور على قدر استعدادها وكل محل يضيف الأثر إلى الشمس ويغفل عن استعداده فالشخص المبرود يلتذ بحراربها والجسم المحرور يتألم بحرارتها والنور من حيث ذاته واحد وكل واحد من الشخصين يتألم بما به يتنعم صاحبه فلو كان ذلك للنور وحده لأعطى حقيقة واحدة وكذلك أعطى ما في قوته غير أنه للقابل حكم في ذلك ولابد فإن النتيجة لا تكون إلا عن مقدمتين فيسود وجه القصار الذي يبيض الثوب فإن استعداد الثوب تعطي الشمس فيه التبيض ووجه القصار تعطي الشمس فيه السواد وكذلك النفخة الواحدة من النافخ وهي الهواء تطفىء السراج وتشعل النار الذي في الحشيش والهواء في نفسه واحد فترد الآية من كتاب الله واحدة العين على الأسماع فسامع يفهم منها أمرا واحدا وسامع آخر لا يفهم منها ذلك الأمر ويفهم منها أمرا آخر وآخر يفهم منها أمورا كثيرة ولهذا يستشهد كل واحد من الناظرين فيها بها لاختلاف استعداد الأفهام وهكذا في التجليات الإلهية فالمتجلي من حيث هو في نفسه واحد العين واختلفت التجليات أعني صورها بحسب استعدادات المتجلي لهم وكذلك في العطايا الإلهية سواء فإذا فهمت هذا علمت أن عطاء الله ليس بممنوع إلا أنك تحب أن يعطيك ما لا يقبله استعدادك وتنسب المنع إليه فيما طلبته منه ولم تجعل بالك إلى الاستعداد فقد يستعد الشخص للسؤال وما عنده استعداد لقبول ما سأل فيه فلو أعطيه بدلا من المنع ويقول ' إن الله على كل شيء قد يرو يصدق في ذلك ولكنك تغفل عن ترتيب الحكمة الإلهية في العالم وما تعطيه حقائق الأشياء والكل من عند الله فمنعه عطاء وعطاؤه منع ولكن بقي لك أن تعلم لكذا ومن كذا فقد عرفتك بالنفس وإنها المحركة للجوارح بما يغلب عليها أما من ذاتها أو مما تقبله من الملك أو الشيطان فيما يلهمها به فعلم الإلهام هو أن تعلم أن الله ألهمك بما أوقره في نفسك ولكن بقي عليك أن تنتظر على يدي من ألهمك وعلى أي طريق جاءك ذلك الإلهام من ملك أو شيطان وما يخرج من قبيل الأمر والنهي المشروع فهو العلم اللدني ما هو الإلهام فالعلم بالطاعة إلهامي والعلم نتائج الطاعة لدني ففرق ما بين العلم اللدني والإلهام فالإلهام عارض طارىء يزول ويجيء غيره والعلم اللدني ثابت لا يبرح فمنه ما يكون في أصل الخلقة والجبلة كعلم الحيوانات والأطفال الصغار ببعض منافعهم ومضارهم فهو علم ضروري لا إلهام وأما قوله ' وأوحى ربك إلى النحل ' فإنه يريد في أصل نشأتها فطرها الله على ذلك والإلهام هو ما يلهمه العبد من الأمور التي لم يكن يعرفها قبل ذلك والعلم اللدني الذي لا يكون في أصل الخلقة فهو العلم الذي تنتجه الأعمال فيرحم الله بعض عباده بأن يوفقه لعمل صالح فيعمل به فيورثه الله من ذلك علما من لدنه لم يكن يعلمه قبل ذلك ولا يلزم من العلم اللدني أن يكون في مادة والإلهام لا يكون إلا في مواد والعلم يصيب ولا بد والإلهام قد يصيب وقد يخطىء فالمصيب منه يسمى علم الإلهام وما يخطىء منه يسمى إلهاما لا علما أي لا علم إلهام والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .
الباب الثامن والخمسون في معرفة أسرار أهل الإلهام المستدلين ومعرفة
علم إلهي فاض على القلب ففرق خواطره وشتتها
إذا أعطاك بالإلهام علما . . . تحققه فأنت به سعيد
كمثل النحل مختلف المعاني . . . قوي في مبانيه سديد
فتلقى طيبا عن طيب أصل . . . وأنت لحالها أبدا شهيد
وفي الأشجار والشم الرواسي . . . لها من فعلها قصر مشيد
فلا تعجزك للعلياء نحل . . . وأنت السيد الندب الجليد
فمنك القصد خيرا واختيارا . . . كما لك في منازلك القصود
Page 361