Fusul Min Falsafa Siniyya
فصول من الفلسفة الصينية: مع النص الكامل لكتاب الحوار لكونفوشيوس وكتاب منشيوس
Genres
إطلالة على الفلسفة الصينية
بين الفلسفة والدين
إذا كانت آيات القرآن الكريم أول ما يتعلمه التلاميذ المسلمون بعد حروف الهجاء، فقد كانت الفلسفة أول ما يتعلمه التلاميذ الصينيون بعد الرموز الكتابية الصينية، وكانت الكتب الكونفوشية الأربعة هي المقررات الدراسية الأولى الموضوعة بين أيديهم. وإذا كان التلميذ المسلم يتعلم تجويد آيات الكتاب بعد تعلم قراءتها، فقد كان لدى التلاميذ الصينيين كتيب للتجويد أيضا، يتكون من جمل مختارة من الكتب الكونفوشية، تتألف كل جملة من ثلاثة رموز كتابية تم اختيارها بطريقة تجعل قراءتها تحدث إيقاعا موسيقيا يساعد على حفظها. وإذا كانت الجملة الافتتاحية في القرآن تقول: «الحمد لله رب العالمين»، فإن الجملة الافتتاحية في كتيب التجويد الصيني تقول: «إن الطبيعة الأصلية للإنسان خيرة»؛ أي إن الجملة الافتتاحية في التعليم الإسلامي تضع قارئها في لب الدين، أما الجملة الافتتاحية في التعليم الصيني فتضع قارئها في لب الفلسفة.
إن الدور الذي لعبته الفلسفة في الثقافة الصينية يعادل الدور الذي لعبه الدين في الثقافة الأوروبية والشرق أوسطية، ولعل هذا ما دفع البعض إلى اعتبار الكونفوشية (وهي الفلسفة الأكثر تأثيرا على الثقافة الصينية) دينا، ولكن الكونفوشية في واقع الحال ليست دينا، شأنها في ذلك شأن فلسفة أفلاطون أو أرسطو أو حتى أفلوطين الإسكندري الذي كانت الإلهيات محور تفكيره. وعلى الرغم من أن الكتب الكونفوشية الأربعة كانت بمثابة إنجيل للصينيين، إلا أن أيا منها لم يبشر بإله أعلى خالق للسماء والأرض، ولم يحتو على قصة للخلق والتكوين، أو على تصورات أخروية عن نهاية العالم ويوم الحساب، وعن الجنة والجحيم.
إن الدين والفلسفة يتفقان في أن جوهرهما يقوم على التفكير المنهجي المنظم في شئون الإنسان والحياة والكون، وهذا يعني أن في كل دين شيئا من الفلسفة، ولكن العكس ليس كذلك؛ لأن الفلسفة تفتقد إلى الأساطير والعقائد والعبادات التي تميز الدين؛ فهي بالدرجة الأولى أفكار، وهذه الأفكار لا تنتظم في إيديولوجيا ودوغما، كما هو حال الأفكار الدينية.
ولهذا فإن الرأي الشائع الذي يقول إن في الصين ثلاثة أديان هي: الكونفوشية والتاوية والبوذية، هو من قبيل تبسيط الأمور؛ فالكونفوشية ليست بالتأكيد دينا، أما فيما يتعلق بالتاوية، فعلينا التمييز بين التاوية الفلسفية؛ أي تاوية المعلم الأول لاو تسو ومن بعده المعلم الثاني تشوانغ تسو، والتاوية الطقسية التي تحمل ملامح الدين، والتي نشأت بعد لاو تسو بعدة قرون وادعت الانتساب إلى لاو تسو على الرغم من الفوارق الجذرية بينهما؛ فالتاوية الفلسفية تقوم على مبدأ التوافق مع صيرورة الطبيعة، أما التاوية الطقسية فتعمل أحيانا على معاكسة الطبيعة. والمثال على ذلك أن لاو تسو يرى أن تناوب الحياة والموت هو قانون طبيعي، وأن على الإنسان أن يقبل الموت مثلما قبل الحياة، أما التاوية الطقسية فقد ابتكرت تقنيات من شأنها إطالة العمر، وطمحت إلى تفادي الموت.
وفيما يتعلق بالبوذية فقد تبدت في صيغتين؛ صيغة فلسفية وصيغة دينية، وكانت الصيغة الفلسفية هي ما يراه المثقف الصيني في البوذية؛ ولهذا فقد كان من المألوف رؤية كاهن تاوي وكاهن بوذي يقومان بطقوس الجنازة لإحدى الأسر، ولا يجد أحد في ذلك غضاضة؛ لأن الصيني بشكل عام يأخذ دينه فلسفيا، إذا كان ذا دين؛ فالصينيون أقل الشعوب اهتماما بالدين، وعبر تاريخهم كانت الفلسفات الأخلاقية هي أساس حياتهم الروحية، ومن خلال الفلسفة كانوا يرضون ذلك السعي الإنساني إلى السمو فوق مجريات العالم المادي.
ونحن إذا عدنا إلى ما قبل القرن السادس ق.م. الذي أخذت فيه المدارس الفلسفية المختلفة بالتوضح، نجد أن الديانة الصينية التقليدية لم تأخذ مفهوم الألوهة المفارقة للعالم بشكل جدي، ولم يكن لديها تصور واضح عن إله يتربع على عرش الكون ويتحكم فيه عن بعد. وعلى الرغم من أن الميثولوجيا الصينية حافلة بالآلهة من شتى الاختصاصات، إلا أن هؤلاء لم يكونوا في حقيقة الأمر إلا أسلافا أسطوريين جرى رفعهم إلى مرتبة الآلهة. وتظهر السير المتداولة عن حياتهم كيف ابتدأ أمرهم كرجال صالحين على الأرض قدموا خدمات جلى لمجتمعهم، وكيف تم تأليههم وعبادتهم فيما بعد. ومما يلفت النظر في أمر الآلهة الصينية أنها لا تتمتع بشخصيات واضحة ووظائف دائمة، وهي تبدو لنا مثل كيانات شبحية تكتسب قوتها من قوة المنصب الذي تشغله؛ ذلك أن الوظيفة الإلهية هي الثابتة، أما شاغلوها فمتبدلون؛ ففي كل إقليم من الأقاليم الصينية يجري توزيع الوظائف والاختصاصات الإلهية بشكل مختلف عن الإقليم الآخر، وقد يجري في إقليم معين رفع إله إلى أعلى من مرتبته في إقليم آخر، أو تخفيض مرتبته، أو حتى صرفه من الخدمة إذا فشل في مهمته، كأن يفشل إله المطر في إنزاله لسنوات عديدة، ويغدو لا بد من إعفائه من منصبه والبحث عن بديل له. وقد عبر الفيلسوف منشيوس عن هذا الموقف الصيني من الآلهة في كتابه المعروف باسمه حيث قال: «إذا كانت حيوانات القربان في صحة جيدة، وحبوب القربان نقية، وجرى تقديم القرابين لآلهة الأرض والحبوب في وقتها، ومع ذلك فشلت في منع الجفاف والفيضانات، فإنها تستبدل» (منشيوس 14: 14).
أما المصدر الحقيقي لقوة الآلهة فهو مفهوم تجريدي عن الألوهة يتمثل في قوة السماء المدعاة «تي يين»، التي جرى تصورها كقوة تشغل الجهة العليا من قبة السماء، وهي قوة غير مشخصة لا تتمثل في شخصية إلهية معينة، ولا تتصل بالبشر عن طريق رسل يشرحون مقاصدها، بل إن الناس هم الذين يتواصلون معها من خلال تقنيات الاستخارة والتنجيم والعرافة. فإذا تجردت قوة السماء حتى من القبة الزرقاء التي اعتبرت مظهرها المرئي، فإنها تلتقي مع مفهوم التاو الذي لعب الدور الأهم في تاريخ الفكر الديني والفلسفي الصيني. وهذا المفهوم لا يتطابق مع أي مفهوم نعرفه عن الألوهة المفارقة الخالقة للعام والمتحكمة به، بل هو الخميرة الفاعلة في العمليات الجارية على مستوى الكون والطبيعة من الداخل لا من الخارج؛ فهذه العمليات لا تتطلب عنصرا خارجيا يدفعها، بل إنها تعمل وفق تلقائية شمولية يتبادل من خلالها كل عناصر الوجود الأثر والتأثير في سلسلة مترابطة لا يوجد فيها علة ومعلول.
ولقد كانت قوة السماء ركيزة الميتافيزيك الكونفوشي، أما التاو فقد كان ركيزة الميتافيزيك التاوي.
Unknown page