إن علمنا كله يقوم على الرواية، والرواية (ومنها رواية الأخبار التاريخية) تقوم على معرفة الرجال. وقد انفردنا نحن دون الأمم كلها بأن كان عندنا علم خاص بمعرفة الرجال. والطبري (وغير الطبري) فيه الروايات الصحيحة المنقولة عن الثقات الضابطين، والروايات المتهافتة المروية عن قوم لم يكونوا من أهل الضبط وليسوا أهلًا للثقة. ثم إن الروايات التاريخية هي رواية عامية (إن صحّ التعبير)، أما الرواية العلمية الثابتة فهي رواية المحدِّثين، لذلك كان المرجع الأول لتاريخنا ما رُوي على طريقة المحدثين. وهذا أيضًا له درجات ومراتب، من المتواتر الذي لا يرتقي الشك إليه، والمشهور والعزيز والصحيح والحسن والضعيف. والصحيح درجات، لاختلاف المصححين واختلاف شرائطهم في التصحيح.
فلا بد -إذن- ليكون الرجل مؤرخًا من أن يكون عارفًا بعلوم الرواية والإسناد، عارفًا بالرجال، عارفًا بالعربية ليفهم ظواهر الكلام وبواطنه وإشاراته ومعاريضه. فإذا كان كذلك استحيا من نفسه وتجرد عن العصبية والهوى وأراد ببحثه الحقَّ ومرضاةَ الله، وإن لم يكن كذلك لم يكن إلا جاهلًا بالتاريخ أو دجّالًا، ولو كان أستاذ الجامعة وكان من أصحاب الشهادات العالية.
* * *