بسم الله الفتاح
أما بعد، فإن فن الروايات من أفضل ما شغل به فتيان هذا العصر، وأحسن ما سعوا له وحثوا إليه الهمم وصرفوا عليه الأوقات؛ لاكتفاء اللغة بغيره من كتب الصرف والنحو وعلوم الأدب مما أبرزه علماؤها وأئمتها، فأبدعوا فيه غاية الإبداع وبلغوا حد الإعجاز، حتى لم يتركوا بعده مقالا لغيرهم ولم يقصروا به عن شأو يطمع فيه من بعدهم، إلا إذا كان من قبيل المقامات والشعر والرسائل، وهو ما لا يكاد يبلغه كل من له قدرة على ترجمة رواية أو تعريب قصة. ولقلة مصنفات هذا الفن في لغتنا العربية واقتصار الكثير منها على أحاديث منقطعة ونوادر مقتضبة تورد لشاهد أو مثل أو نكتة أو ما جرى مجراها، بحيث لا يكون منها قصة وافية بالمطلوب جامعة ما يقصد في فن الروايات من تهذيب النفوس وترويض الأخلاق، وهي كتب كثيرة كالعقد الفريد وزهر الآداب والأغاني وغيرهما مما يراد به جمع النكات ويقصد فيه إلى تدوين الغرائب والأمثال وضروب البلاغة ومخارجها، فيرد المثل في عرض الحكاية وتدخل النكتة في خلال القصة، ومنها ما يراد به الإعجاز والإبداع في مدح الشيء وذمه توسعا في الكلام واقتدارا على المعاني، وهو ما لا يؤثر شيئا في الأخلاق كما توهم بعض مترجمي هذا العصر، وإنما يورد تفكهة للخواطر وبيانا لسعة إدراك ناظمه وطول باعه في الاختراع؛ حتى يهجن الحسن ويحسن القبيح ولا دخل له في مقام الروايات والسير التي يقصد بها النفع وتتوخى منها الفائدة للخاصة والعامة؛ ولذلك فقد عنيت بتعريب هذه الرواية عن اللغة الفرنسوية متحريا ما وسعته الطاقة وبلغ إليه الخاطر الكليل من مجاراة اللغة العربية ومراعاة ضروب التعبير فيها ومقام الأحاديث في قصصها، من إسقاط ما يختلف به الإفرنج عنا في استحسانه أو استهجانه، ويباينوننا فيه من حيث الفصاحة والركاكة والحسن والقبح والملائمة والتنافر ونحوها. وأنا أعلم أن ذلك تهجم مني على المؤلف - رحمه الله - في إسقاط بعض كلامه وإيجاز بعضه، ولكني لم أجر هذا المجرى ولم أعتمد هذه الخطة إلا مجاراة للغة واسترسالا مع نسقها بحيث يغتفر لي في جانب مراعاته ما يؤخذ علي في الإخلال بالأصل. ولعل أمري في ذلك يحمل بعضه بعضا وأخلص منه لا علي ولا ليا.
وأنا أرجو من أرباب اللغتين أن يغضوا الطرف عما يرونه من الزلل، ويغتفروا ما يعثرون عليه من الخلل، والله المستعان على ما به الهداية وقصد السبيل، وإياه نستوهب العصمة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
المقدمة
في اليوم الأول من شهر نيسان سنة 1635 كانت قصبة مقاطعة مينك في هياج واضطراب كأنها في فتنة، ورجالها تتسابق إلى فندق فيها كأنها تسعى إلى أمر ذي بال، والنساء بين ذلك يركضن والولدان يبكون والهياج عام في البلد. وكانت فرنسا في ذلك العهد مقر الفتن وميدان الحروب، يهاجم أمراؤها بعضهم بعضا، ويحارب ملكها الأندلسيين، وتعدو اللصوص على السابلة فتسلبهم بحيث كان الرجل لا يفارق سيفه ولا ينزع لأمته.
وكان من أمر ذلك أن فتى يدعى الكونت دارتانيان دعا به أبوه في ذلك اليوم فسلمه فرسا له وقال له: يا بني، هذا فرسي وضعته أمه في فنائي، فاحتفظ به ولا تهمل أمره، فإنها الجياد، في ظهورها العز وعلى صهواتها المجد، وفيها لحاق للطالب ومنجاة للهارب، والخيل معقود بنواصيها الخير. ثم إذا أتيت دار الملك - وأنت ذو حق في إتيانه؛ لسمو منزلتك من الشرف ومكانك من الفخر وعراقة أجدادك في النبل من نيف وخمسمائة سنة - فلا تخفض جناحك إلا للكردينال والملك، ولا ترهب غيرهما، فإن الرجل اليوم لا يأمن طريقه إلا بالشجاعة والإقدام والصبر على المكاره، وأنت حري بذلك؛ لتقدم أصلك في بلاد الغسقون، وهم شجعان الناس وأحلاس الخيل، ولتسلسلك من آباء كرام آخرهم أنا. وإني قد ألقيت حبلك على غاربك ووكلتك إلى نفسك، فاذهب لا ترهبك النوائب ولا يقعد بك العجز عن استفراص الفرص؛ فلقد أصبحت بريء الذمة منك، واضح وجه العذر فيك؛ إذ قد علمتك أنواع الحروب وركوب الخيل، وتركت لك لأمة جلاد لا ينقصها شيء من العدة. وهذا القدر اليسير من المال وهذه الرسالة تعطيها إلى صديق لي في قصر اللوفر يدعى دي تريفيل، وهو سيد رفيع المنزلة وافر الثروة مسموع الكلمة، يتحامى جانبه الكردينال نفسه الذي لا يرهب أحدا، فسر على بركات الله واحتفظ بوصاتي لك، والله يكلأك ويرعاك.
ثم قبله وصرفه، فخرج فأصاب أمه في فناء الدار، فانعطفت عليه تقبله وتبكي لفراقه، ثم أعطته مرهما يسرع في برء الجراح. فخرج من عندها فركب فرسه وسار، تستحثة العزة وتحدوه النخوة والشباب حتى انتهى إلى المدينة التي ذكرناها، فترجل عن جواده لدى أحد الفنادق، وتقدم فرأى نافذة فيها رجل طويل القامة حسن الملبس يخاطب رجلين كانا معه وينظر إليه، فظن أنهم يعنونه في كلامهم، فدنا منهم وأنصت إليهم فسمعهم يذكرون فرسه ويضحكون منه، فهاجه ذلك، وجعل ينظر في الرجل نظرة المغيظ المحنق، والرجل يستغرق في الضحك حتى لم يعد في الشاب مجال للسكوت والصبر، فاقترب من النافذة وقد رانت عليه الحدة وقبض على سيفه وقال للرجل: ما بالك تضحك؟ وما الذي دعاك إلى الضحك؟ فعجب الرجل من بديهة خطابه، فأغلظ له وزاد بينهما اللجاج حتى خرج الرجل إليه من الباب وتبعه صاحباه، فسل دارتانيان سيفه وهم بالهجوم على خصمه، فبادره الرجلان بالعصي حتى برحا به، فقال لهما صاحبهما: احملاه على فرسه وليرجع من حيث أتى. قال: والله لا أرجع أو أقتلك، ثم التقيا واشتد بينهما القتال حتى تعب دارتانيان، فضربه خصمه على سيفه فكسره وأصاب جبهته، فانجرح وسقط لا يعي على شيء وهو ما دعا إلى تجمع الناس لأنهم خافوا من حدوث فتنة في المدينة.
أما الجريح فنقلوه إلى مكان في الفندق، ودخل الرجل إلى غرفته وصار إلى النافذة، فدخل عليه صاحب الفندق، فلما رآه الرجل سأله عن حالة الجريح، قال: هو مغمى عليه، فكيف أنت يا مولاي؟ قال: سليم بحمد الله، فماذا صنعتم بالفتى؟ قال: بحثنا في ثيابه فلم نجد معه إلا بعض الدراهم، ولقد قال لنا قبل أن يغشى عليه إنه لو جرت معه هذه الحادثة في باريز لكان يريك فعل الرجال، ولكنك هنا في مكان أنت فيه الأمير المطلق. قال: يلوح لي أنه من أصل شريف، فهل لم يذكر اسم أحد؟ قال: نعم، كان يضرب بيده على جيبه ويقول: سنرى ما سيكون من دي تريفيل إذا علم بما جرى لصديقه. قال: ألم تر ما في جيبه؟ قال: رأيت كتابا باسم دي تريفيل قائد الحرس. فارتاع الرجل لذلك وقال له: أين وضعتموه؟ قال: في غرفة امرأتي. قال: وأين ثيابه؟ قال: في المطبخ حيث رششنا عليه الماء. قال: إذن فنبه خادمي للسفر فإني راحل. قال: نعم. وخرج والرجل يقول: لا ينبغي أن تعرف ميلادي ما جرى ولا أن ترى الرجل؛ ولذلك فأنا ألاقيها، ثم نزل إلى المطبخ حيث ثياب الجريح.
وكان صاحب الفندق قد صعد إلى غرفة دارتانيان فوجده قد أفاق، فقال له إنه يخشى من الشرطة أن تأخذه لاعتدائه على سيد شريف، ثم نصح له بالذهاب من الفندق، فقام الفتى واقفا وخرج إلى المطبخ، وحانت منه التفاتة فرأى خصمه واقفا لدى عربة كبيرة يخاطب امرأة فيها، صبوحة الوجه بارعة في الجمال وهي تخاطبه بحدة كأن بينهما أمرا خطيرا، حتى قالت: أكذا يأمرني الكردينال؟ قال: نعم، بأن ترجعي إلى إنكلترا وتعلميه إذا رحل الدوق عن لندرة. قالت: نعم، ثم ماذا؟ قال: أما ما بقي من الأوامر فتجدينه في هذه العلبة، ولا تفتحيها إلا متى صرت في لندرة. قالت: وأنت ما تفعل؟ قال: أرجع إلى باريز. قالت: أفلا تعاقب هذا الغلام الذي اجترأ عليك؟ وكان دارتانيان قد سمع ما دار بينهما وهو واقف على عتبة الباب، فقال: أنا أعاقب الناس، فمن يعاقبني؟ فوالله لا تفلت مني في هذه المرة أبدا. فعبس الرجل وجهه، وأهوى بيده على قبضة سيفه ، فصاحت به الامرأة: على رسلك يا مولاي، فإن أقل تأخر يهدم ما بنيناه. قال: صدقت، فاذهبي في طريقك وأنا ماض في طريقي، ثم ركب جواده وسار، فتبعه دارتانيان وهو يصيح به ويستوقفه حتى أعيا وثار عليه جرحه فسقط مغشيا عليه، فاحتمله صاحب الفندق إلى غرفته وعالجه حتى أفاق.
ولما كان اليوم الثاني وقد شفي جرحه من المرهم الذي معه نزل إلى ثيابه، فنظر فيها فلم يجد الكتاب، فاغتم لذلك غما شديدا، فقال له صاحب الخان: ما أظن الكتاب إلا مسروقا. قال: ومن سارقه؟ قال: خصمك؛ فقد نزل وبحث في ثيابك. قال: إذا رأيته أره عاقبة أمره، ثم ركب جواده وسار حتى بلغ باريز، وكان ماله قد نفد في الخان فاضطر إلى بيع الفرس، ودخل باريز راجلا. وانطلق يلتمس مسكنا في أحد الفنادق، فوجد غرفة في شارع فوسوايير على مقربة من ليكسمبرج، فأقام فيها يصلح من شأن ثيابه، ثم نزل إلى السوق فجدد نصل سيفه، ثم عمد إلى اللوفر فسأل عن منزل دي تريفيل، فقيل له في شارع برج الحمام، وهو شارع على مقربة من غرفته، فعاد إلى منزله وبات، ثم قام في وجه الصبح قاصدا دي تريفيل ثالث رجل في فرنسا بعد الملك والكردينال.
Unknown page