Alice Barnham
بنت بعض الوجهاء، وذات حظ من المال والجمال، ولكنه لم يسعد بها كما تمنى، وإن لم يشق بها شقاء منافسه بنصيبه! وتبين من وصيته ما كان مفهوما خلال حياته من قلق ضميره، وقلة اطمئنانه لهذا الزواج.
وكان يوم الزفاف معرضا لصفات باكون، التي لازمته طول حياته في سيرته الاجتماعية، وهي البذخ والإسراف وحب الأبهة والعلو على الأقران في هذا المضمار، فذهب إلى الكنيسة هو وزوجته غارقين في حلل الحرير، وحلي الذهب والفضة والجواهر النفيسة، وعاش على هذه البزة وهذه الشارة بقية أيامه إلى أن قضى نحبه في نحو الخامسة والستين.
ولا يبدو من وصيته أنه كان على عسر في معيشته، وإن ركبته الديون آونة بعد آونة، وعده بعضهم من الفقراء بالقياس إلى منزلته ولقبه، فقد عاش في سعة ونافس الأمراء في حله وترحاله، وكتب وصيته قبل أشهر من وفاته وهو يذكر جياده المطهمة ومركباته الفاخرة، ويتكفل بكرسيين للمحاضرة في الجامعات، وبمائتي جنيه في السنة للإنفاق على المباحث الطبيعية.
ونحن نكتفي بالموجز المفيد من نشأته المدنية؛ لأنها ولا ريب هي الصفحة التي يستريح القارئ إلى الإسراع بطيها في سجل هذه الحياة الحافلة.
ومتى طويت هذه الصفحة، فليس في السجل كله إلا ما هو جدير بالنشر والإعجاب والتذكار، إذ ليس في السجل كله بعد ذلك إلا الأمانة، التي لا تعدلها أمانة في خدمة العلم، ونصح بني الإنسان، وليس بين حكماء الأرض من يعرض لنا في هذا الباب صفحة هي أنصع وأخلد من صفحة هذا الحكيم، الذي جمع الحكمة كلها في قلمه، وضيعها كلها في تصرفه وعيشه.
فكانت غيرته الصادقة في ميدان البحث والعلم على قدر تفريطه الخادع في ميدان الجاه والمال، وكان حبه للحق وهو يفكر ويكتب على قدر هوان الحق عليه وهو يعالج العيش، ويزاول مرافقه ومرافق الناس.
فمنذ الصبا الباكر نشأ هذا الرجل العجيب - أو الرجل المزدوج، كما قال بعض ناقديه - نشأة عالم أمين خلق لتمحيص الحقيقة العلمية دون سواها، حتى لتعجب كيف اتسعت هذه الطبيعة لتلك النقائض، التي لا تحيك بها إلا خلقة منعزلة عن العلوم والتفكير في العلوم. •••
كان في العاشرة من عمره يفتح على الدنيا عيني عالم صغير، وانسل يوما من بين رفقته اللاعبين إلى قبو في حقول سان جيمس يسمع منه صداه العجيب ويتقصاه، ويسأل عنه معناه، وشغل منذ الثانية عشرة بحيل الحواة والمشعوذين؛ لما فيها من المشابهة للسحر والعلم والصناعة في وقت واحد، ونفرت سليقته وهو دون السادسة عشرة من تعليم الجامعات، الذي كانوا يعزونه يومئذ إلى آراء أرسطو وهو من أكثرها براء، وفصل القول ولما يبلغ الثامنة عشرة في مشكلات أوروبا السياسية ذلك التفصيل الذي يعيي عقول بعض الكهول ممن لم يرزقوا تلك الفطنة وذلك الإلهام، ولم يقنع وهو في الثلاثين بما دون تبديل الأسس العلمية والفلسفية جميعا كما كانوا يستقرون عليها في تلك العصور، فطفق يفكر ويعيد التفكير في قسطاس شامل لجميع المعارف البشرية، التي كانت معروفة يومئذ، والتي كان يرجى أن تعرف بالقياس على ذلك القسطاس، وسماه ذلك الاسم الفخم الذي يشير إلى آفاقه ومراميه، وهو «البناء الأعظم للفلسفة الصادقة» ... وظهر الجزء الأول منه (في سنة 1605) باسم ترقية المعرفة أو التعليم، ثم وسعه وتممه وأضاف إليه، وأصدر منه نسخة لاتينية في سنة 1623، وظهر الجزء الثاني من هذا السفر الضخم باسم القانون الجديد أو القياس الجديد
Novum Organum
Unknown page