وليس مما ينسى لباكون في هذا المقام أنه قد حاول جهده أن يصلح بين الملكة واللورد إسكس، بعد أوبته بالخيبة من البلاد الأيرلندية، وأن قد حاول جهده أن يثني اللورد عن عزيمة الثورة، حين هجست في نفسه هواجسها، وكاشف بها بعض المقربين إليه، فهذا وذاك مما يحسب لباكون من شفاعة المعذرة في تلك المعابة الموصومة التي تورط فيها لغير ضرورة حازبة، ولكنها معذرة لا ترحض عنه الوصمة ولا تبرئه من المذمة، وإن غناءها عنه لقليل كلما ذكر إلى جانبها ذلك اللدد الذي ظهر منه في محاسبة وليه ونصيره، وتلك الجهود التي بذلها في حصر التهمة، وإغلاق منافذ الرحمة، ومنها الكذب المتعمد فيما يعلم هو قبل غيره أنه كذب صراح.
ففي رسائل باكون التي كان يكتبها إلى اللورد إسكس كلام كثير عن مكائد الحساد، وفخاخ الأعداء الواقفين له بالمرصاد، وقد كانت هذه المكائد عذرا يلتمسه المدافعون عن اللورد إسكس؛ لتهوين جريمة الثورة، وتمثيل التهمة في صورة العداء بين الأنداد والقرناء، فطفق باكون في اتهامه يسخر من دعوى الكيد والاستثارة، ويحسبها من المزاعم التي لا تقوم عليها بينة صادقة ... حتى ضاق اللورد المتهم بهذه المكابرة التي لا موجب لها، وقاطعه قائلا: إن مستر باكون في رسائله يدحض ما يقوله مستر باكون في اتهامه!
ثم زاد باكون على اللدد في الاتهام لددا في تشويه السمعة بعد الممات، فأساء إلى اللورد المحكوم عليه في ذكراه كما أساء إليه في حياته، وأتبع موته ببيان مستفيض عن غلطاته ومثالبه، وما استحق به الجفوة من مليكته ثم القضاء عليه بالموت، وكان هذا البيان مطلوبا لتهدئة الشعب الذي تلقى نفاذ الحكم في بطله المحبوب بالوجوم والإعراض عن البلاط وحاشيته أيما إعراض.
وقد عجب نقاد هذه القضية من نشاط باكون وبراعته القانونية، ومن هفوات كوك وغفلته عن المآخذ الظاهرة في تسيير الدعوى وتوجيه التهمة، ومن أسباب عجبهم أن باكون على فضله في العلم والأدب لم يكن ندا لكوك في أفانين المحاكم ومسائل القضاء! وإنما جاء العجب من المقابلة بين متسابقين يجري أحدهما ملء خطوه، ويظلع الآخر باختياره، ويحسب السبق بينهما على باكون، ولا يحسب على مسابقه القدير المتواني بمشيئته في هذا المضمار.
وشاءت المقادير أن ينقضي حكم اليصابات كما أسلفنا، وليس لباكون نصيب فيه من الوظائف أو الألقاب، ألعله حقد منها عليه لجده في اتهام الثائر المحبوب؟ يجوز. وإن لم يجز فالذي لا نشك فيه أن باكون قد عومل يومئذ معاملة البغيض المحقود عليه.
وكل ما أصابه من جزاء على جهوده المضنية في هذه القضية حصة من الأموال، التي جمعت من مصادرة أملاك الثائرين ووزعت على المشتركين في اتهامهم، وإنفاذ الأحكام فيهم، وبلغت هذه الحصة ألفا ومائتي جنيه هي دون ما أخذه طواعية من اللورد القتيل، ولو بلغت أضعاف ذلك لما حسبت من الرزق المريء، ولا من الرزق الكريم.
لا بل أصابه من جزاء على تلك الجهود ظل كثيف من المعابة قد ران على سمعته، ولا يزال يرين عليها بعد ثلاثة قرون، وأغرى به من العداوات ما تجاوز السمعة إلى الضرر في المنصب والمال، فلم تخل نكبته الأخيرة من عقابيل هذا الخطأ الجسيم.
إن الناس لا يفهمون خيانة من الخيانات كما يفهمون الخيانة بين الأصدقاء، وربما دق عليهم فهم الخيانة الوطنية لالتباس الرأي فيها بالتفاصيل الفقهية التي لا يفقهونها، أو لانطوائها في غمرة الخصومات الحزبية والعصبيات المذهبية ... بل يدق عليهم أحيانا فهم الخيانة في العرض لما يحيط بها من الاستهواء القصصي، والعلاقات الشعرية أو المسرحية، التي تمتزج بأحاديث الغرام. أما خيانة الأصدقاء فهي من الخيانات المفهومة في كل بيئة وعلى كل حالة، وعند الإنجليز خاصة يكبرون كلمة الولاء حتى يقرنوها في ألفاظهم بالإيمان، ويقرنوا الكفر بمعنى من معاني «عدم الولاء» ... فإن عجبت في أمر باكون، فاعجب لسقطات الذكاء كيف تزل بصاحبها هذه الزلة تحت بروق المطامع، التي هي شر من الظلام الدامس على السالكين فيه. •••
وأقبل عهد جيمس الأول بشيء من الرجاء في استدراك ما فات على عهد الملكة اليصابات، وقد أوشك في بدايته أن يعصف بهذا الرجاء القليل، فيتصل العهدان بسلسلة من الحرمان والتسويف؛ لأن الملك جيمس كان يعطف على أسرة اللورد إسكس، ويرغب في إقالة عثرتها واستحياء نفوذها، ولم يكد يستوي على عرشه حتى أحس الناس منه هذه الرغبة، فانطلقت الألسنة من عقالها تثني على اللورد القتيل، وتقدح في أعدائه وأصدقائه المنقلبين عليه، ولكن الملك جيمس كان يسلك نفسه في زمرة العلماء والأدباء، ويحب أن يعطف عليهم عطف الزملاء على الزملاء، وكان باكون قد أثبت إلى جانب ذلك أنه رجل يعول عليه في ساحة القضاء وقاعة مجلس النواب، ويستفاد منه ما يساوي ثمن اللقب أو الوظيفة إذا التمس البلاط هذه الفائدة في يوم من الأيام، ولم يكد يبقى في زمرة المحامين أحد من طبقة باكون، لم ينعم عليه في مستهل العهد الجديد بلقب من ألقاب التشريف، ولم يقصر باكون في الطلب، ولا ترك لأحد من ذوي النفوذ مندوحة للرفض والاعتذار، فكتب إلى كل ذي طالع مرجو في العهد الجديد يعرض عليه خدمته وولاءه وصدق بلائه ، وكتب إلى قريبه روبرت سسل فيمن كتب إليهم يسأله الوساطة في تشريفه بلقب من الألقاب أسوة بأقرانه وأصحابه، وتمهيدا للزواج بفتاة ذات مال يصلح به شأنه، ولعلها في يسارها ومنزلتها لا ترضاه بغير لقب وبغير مال!
وقد أنعم عليه في سنة 1603 بلقب فارس، فأصبح يدعى السير فرنسيس باكون، وتوالى الإنعام عليه بالألقاب حتى ارتقى إلى رتبة الفيكونت
Unknown page