ثم إذا أضفت إلى هذا كله أن هؤلاء الشيوخ من المهاجرين والأنصار، قد عاشوا عيشة إلا تكن بدوية خالصة فهي إلى البداوة أقرب منها إلى الحضارة، ثم نظروا ذات يوم فإذا هم أمام دولة ضخمة بعيدة الأرجاء مترامية الأطراف معقدة الشئون تحتاج إلى أن تساس سياسة الحضارة المتأصلة ذات السنن الموروثة والتقاليد المقررة لا الحضارة الطارئة - إذا جمعت هذه الخصال كلها بعضها إلى بعض، عرفت أن ظروف الحياة التي أطالت بعثمان كانت أقوى منه ومن أصحابه. ولا تقل إن عمر قد واجه هذه الظروف وظهر عليها؛ فقد كان عمر من هؤلاء الأفذاذ الذين لا تظفر الإنسانية بهم إلا في القليل النادر، والذين يتعبون من بعدهم ويرهقونهم من أمرهم عسرا. ولولا شيء من التحفظ والاحتياط لقلت: إن المسئول الأول والأخير عما تعرض له عثمان وأصحابه من الخطوب، إنما هي هذه العبقرية الفذة التي أتيحت لعمر ولم تتح لأحد من أصحابه وفيهم عثمان.
ومهما يكن من شيء؛ فهذه الأحداث التي حدثت، وهذه الفتنة التي بلغت المرحلة الأولى من مراحلها بقتل عثمان، قد تركت المسلمين وأمامهم طريقان كلتاهما مستقيمة واضحة الأعلام ليس فيها عوج ولا التواء: إحداهما هي الطريق التي سلكتها الأمم من قبلهم، وهي طريق الملك الذي يقيم أمره على الحزم والعزم وعلى القوة والبأس، ويحل مشكلات الدنيا بوسائل الدنيا، فيرقى ويقوى ويزدهر، ثم يصيبه الضعف والانحلال والذواء لينتقل من طور إلى طور، ومن دولة إلى دولة، ومن شعب إلى شعب. والأخرى هي هذه الطريق الجديدة التي مهدها النبي ورفع أعلامها صاحباه، وهي التي لا تقيم السلطان على القوة، وإنما تقيمه على المحبة والعدل، وتجعل القوة أداة من أدواته ووسيلة من وسائله، ولا تعرف أثرة ولا تحكما ولا جبرية، ولا تحل مشكلات الدنيا بوسائل الدنيا، وإنما تحلها بوسائل الدين هذه التي تقوم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى الرغبة في الخير والنفور من الشر، وعلى الإيثار على النفس والتبرؤ من الأثرة، وتعتمد قبل كل شيء على صفاء النفوس ونقاء الضمائر وطهارة القلوب، وتتخذ الدنيا كلها، لا أقول وسيلة إلى الآخرة ليس غير، ولكن أقول وسيلة إلى الآخرة من جهة، ووسيلة إلى دنيا جديدة تزداد رقيا ونقاء وصفاء وطهرا كلما تقدمت بها الأيام من جهة أخرى.
نظر المسلمون بعد مقتل عثمان، فإذا هم على رأس هاتين الطريقتين. فأما أكثرهم فسلكوا الطريق الأولى، وامتحنوا فيها وما يزالون يمتحنون بما امتحنت به الأمم والشعوب، وأما أقلهم فحاولوا أن يسلكوا الطريق الثانية، ولكنهم كانوا ناسا من الناس، فلم يكادوا يتقدمون في طريقهم تلك حتى امتحنوا في أنفسهم ودمائهم، وحتى غلبهم الأكثرون عددا على أمرهم.
وينظر المسلمون الآن فإذا الطريق الأولى ما زالت مزدحمة بهم جميعا يتهافتون فيها كما يتهافت الفراش في النار، وإذا الطريق الثانية ما زالت قائمة واضحة بينة الأعلام، ولكنها خالية لا يقدر على سلوكها إلا أولو العزم من الناس. وأين أولو العزم من الناس؟!
الفصل الثلاثون
وهناك مع ذلك سؤال لم يجب عنه القدماء إجابة مرضية، بل لم يحاول أكثرهم أن يجيب عنه، ولا بد مع ذلك من أن نظفر له بجواب: كيف ولماذا أبطأ عمال عثمان عن نصره حتى أتيح للثائرين أن يحاصروه فيطيلوا حصاره وأن يقتلوه بعد ذلك؟ فقد قيل: إن الحصار اتصل أربعين يوما. ونحن نعلم أن المواصلات لم تكن يسيرة ولا قريبة، ولكنا نعلم من جهة أخرى أن الأخبار كانت تنتقل في سرعة مدهشة إلى الأمصار، فعبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يعلم أن المصريين قد خرجوا منكرين على عثمان، وهو أنبأ معاوية بذلك من غير شك، كما أنه كتب به إلى عثمان. وأبو موسى الأشعري قد رأى مخرج أهل الكوفة من الكوفة، وعلم من أمرهم مثل ما علم ابن أبي سرح من أمر المصريين. وقل مثل ذلك بالقياس إلى عبد الله بن عامر مع الذين خرجوا من أهل البصرة. فما بال هؤلاء العمال لم يسرعوا إلى نصر الإمام لمجرد علمهم بخروج من خرج من أهل أمصارهم؟ بل ما بالهم لم يسرعوا إلى نصر عثمان حين جاءتهم كتبه تطلب إليهم النجدة؟ ولماذا تلبثوا وتباطئوا حتى كان الشر وقتل الإمام قبل أن يدركوه؟ وأكثر من هذا أن عثمان قد عود عماله أن يوافوه في الموسم من كل عام، فما بالهم أقاموا في أمصارهم هذا العام ولم يشهدوا الحج حتى اضطر عثمان - وقد كان محصورا - أن يأمر ابن عباس ليحج بالناس؟
وأشد من هذا كله غرابة أن ابن عباس حمل فيما يقول المؤرخون كتابا من عثمان إلى عامة المسلمين الذين شهدوا موسم الحج يعرض عليهم قضيته فيه ويدافع عن نفسه. ويقول المؤرخون: إن ابن عباس قرأ هذا الكتاب في الموسم، فكيف استمع الناس لهذا الكتاب الذي رواه الطبري كاملا، ثم تفرقوا بعد ذلك كأن لم يكن شيء، لم ينهض أحد منهم لنصر الخليفة، ولم تذهب جماعتهم إلى المدينة ليشهدوا بعض ما كان يقع فيها من الأحداث؟ بل كيف قام عامل عثمان على مكة هادئا ساكنا مطمئنا لم يستنفر الناس لنصر الإمام ؟ ولو قد استنفر أهل مكة وجمع من أهل البادية جيشا لاستطاع أن يشغل هؤلاء الثائرين حتى تقبل هذه الأمداد النظامية من الأمصار. فما بال شيء من هذا لم يكن؟ وما بال أحد من هؤلاء العمال لم يتحرك؟ وما بال الحجيج لم يفزعوا لنصر إمامهم؟ أيمكن أن تكون الأمة كلها قد أسلمت هذا الإمام: فترت الرعية، وأضمر العمال في نفوسهم أشياء فتباطئوا وتثاقلوا، وشغل كل واحد منهم بنفسه، وتركوا الإمام لأهل المدينة يصنعون به ما يشاءون أو يصنع هو بهم ما يشاء؟ وقد رأيت أن أهل المدينة أنفسهم قد كانت كثرتهم مع الثائرين، وكانت قلتهم من أصحاب النبي خاذلة لعثمان تنكر بألسنتها ولا تصنع شيئا. ولو قد استقبل أصحاب النبي هؤلاء الثائرين منكرين عليهم وحثوا في وجوههم التراب لانصرفوا مخذولين كما قال بعض القدماء. وإذن فقد صدق عثمان حين قال إن الناس قد طال عليهم عمره فملوه. وأكبر الظن أن الناس لم يطل عليهم عمر عثمان فحسب، وإنما طال عليهم أيضا عمر هذه السياسة التي لم تكن سياسة خلافة كالتي عرفوها أيام عمر، ولا سياسة ملك كالتي عرفوها من قيصر وكسرى، وإنما كانت شيئا بين بين.
الفصل الحادي والثلاثون
أصبح عثمان غداة الليلة التي أرسل فيها سهم أو ألقي فيها حجر من داره فقتل نيار بن عياض الأسلمي - أصبح عثمان غداة تلك الليلة صائما، وتحدث إلى أصحابه بأنه مقتول من ذلك اليوم. فلما قال له أصحابه: يكفيك الله عدوك يا أمير المؤمنين، قال: لولا أن تقولوا تمنى عثمان لحدثتكم حديثا عجيبا. قالوا: فإنا لا نقول ذلك. قال: إني رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
Unknown page