ولكن هذه الناحية من حياة عمر أيسر النواحي وأهونها على ما فيها من الشدة والجهد؛ فهناك السياسة العامة التي أخذ عمر نفسه بها وجعلها لخلافته شريعة ومنهاجا؛ وأول ذلك سياسته لهؤلاء النفر من كبار الصحابة وأعلام المهاجرين والأنصار؛ فهؤلاء هم أصحاب السابقة في الإسلام وأصحاب المكانة الممتازة من النبي، إليهم الحل والعقد في كل أمور المسلمين، يؤدي إليهم عمر حسابه عن تصرفه في كل أمر من الأمور العامة، ويستشيرهم في الجليل والخطير من المصالح، ويرى أنه قد ولي عليهم وليس خيرهم، فما عسى أن تكون سيرته فيهم مع ذلك؟ ما عسى أن تكون سياسته لهم؟ أخذهم بالحزم والرفق جميعا، فجعلهم نظراءه وخاصته وأصفياءه وذوي مشورته؛ ولكنه خاف عليهم الفتنة، وخاف منهم الفتنة أيضا، فأمسكهم في المدينة لا يخرجون منها إلا بإذنه، وحبسهم عن الأقطار المفتوحة لا يذهبون إليها إلا بأمر منه. خاف منهم أن يفتتن بهم الناس، وخاف عليهم أن يغرهم افتتان الناس بهم، وخاف على الدولة أعقاب هذا الافتتان. وما من شك في أن هذا قد شق على كثير من أصحاب النبي ومن المهاجرين منهم خاصة.
وآية ذلك أن عثمان لم يكد يتولى أمر المسلمين حتى فك عنهم هذا العقال وأذن لهم فتفرقوا في الأرض، فرضوا عنه كل الرضا، ثم لم تمض أعوام حتى ضاقوا به أشد الضيق، وكانت الفتنة التي خشي عمر أن تكون. ثم كان عمر قد فرض لكل واحد من أصحاب النبي عطاءه على مكاناتهم وسابقاتهم في الإسلام، وعلى منازلهم وقرابتهم من النبي، وكان عمر يرى أن فيما فرض لهم من العطاء ما يغنيهم ويكفيهم السعي والاكتساب، ولكنهم مع ذلك اكتسبوا واتجروا، وكان منهم من ضارب، فعظم ثراؤهم وكثرت أموالهم، فتوسعوا في الغنى وتوسعوا في العطاء أيضا، ولم يستطع عمر أن يمنعهم من ذلك أو يردهم عنه؛ فهم كانوا يتجرون ويكتسبون أيام النبي فلم يردهم النبي عن التجارة ولا عن الاكتساب، ولكن عمر رأى ثراءهم وثراء غيرهم من المسلمين، بفضل ما أفاء الله عليهم من غنائم الفتح، وبفضل هذه الأعطيات التي كانت توزع عليهم كل عام، فلم يرض عن ذلك، ولم تطب به نفسه، حتى كان يقول: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء.» ولو قد مد لعمر في أسباب الحياة لكان من الممكن أن يرى التاريخ الإسلامي منه في ذلك عجبا.
وقد كثرت أموال المسلمين بفضل الفتح أيام عمر، فوقف من كثرتها موقف الحيرة أولا وشاور أصحابه؛ فأما علي فأشار عليه بما يلائم السنة الموروثة ولا يلائم تطور الحياة، فقال له: تقسم ما يرد من الأموال، حتى إذا حال الحول لم يبق في بيت المال درهم ولا دينار إلا ذهب إلى مستحقه. وأما عثمان فقال له: أرى مالا كثيرا، وإذا لم يضبط خشيت أن ينتشر الأمر. ثم انتهى عمر في القصة المعروفة إلى أن دون الدواوين، وفرض للناس أعطياتهم، وأمسك في بيت المال لمصالح المسلمين العامة ما يتجاوز هذه الأعطيات.
ولم تلبث الحوادث أن أظهرت صواب هذا الرأي الذي أشار به عثمان والذي كان يلائم طبيعة الأشياء في دولة متحضرة أو تريد أن تتحضر؛ فلما كان عام الرمادة وجد عمر في بيت المال ما أتاح له أن يقيم أمر الناس حتى يأتيه الغوث من الأقاليم، وكان يقول: نطعم المسلمين من بيت المال، حتى إذا لم نجد فيه شيئا أدخلنا على كل أهل بيت من الأغنياء مثلهم من المحتاجين، وما نزال نفعل ذلك حتى يطعم المسلمون جميعا.
على أن هذا النحو من سياسة المال كان أيسر ما ذهب إليه عمر، وهو على ذلك قيم له حظه العظيم من إيثار العدل والرفق بالناس. ولكن هناك مذهبا لعمر في سياسة المال ذهب إليه ومضى فيه إلى مدى بعيد، ويخيل إلي أن الأمم المتحضرة تحاول الآن أن تذهب إليه، فلا يتاح لها ذلك إلا في مشقة شاقة، وعسر عسير.
فقد كان عمر يرى ويعلن أن هذا المال الذي يأتي من الفيء ومن جباية الجزية والخراج، ملك للمسلمين جميعا، لا يستأثر به واحد دون الناس، ولا يستاثر به فريق من الناس دون غيرهم من الرعية، وكان يرى أنه المسئول الأول والأخير عن حفظ هذا المال أولا، وعن رده إلى أهله ثانيا، وكان يقول: لو ند جمل من إبل الصدقة في أبعد الأرض أو أصابه مكروه لخشيت أن يسألني الله عنه يوم القيامة. وكان يقول: إن عشت ليأتين الراعي في جبل صنعاء نصيبه من هذا المال.
وكان قد فرض للناس أعطياتهم من هذا المال؛ للرجل عطاؤه، وللمرأة عطاؤها، وللطفل عطاؤه، وللشيخ الفاني وذي العاهة عطاؤه. وكان يحسب أنه بذلك قد بلغ من العدل ما أراد، ولكنه مر ذات ليلة فسمع صبيا يبكي، فمضى لشأنه، ثم مر به ثانية فسمعه يبكي، فسأل أمه عن ذلك فأجابته جوابا ما، ولكنه مر الثالثة فسمعه يبكي، فلما ألح على أمه في السؤال أنبأته بأنها تريغه عن الرضاع: لأن عمر لا يفرض للأطفال إلا حين يفطمون، فلما سمع عمر ذلك جزع له جزعا شديدا. ثم أصبح فأمر من أذن في الناس: لا تعجلوا بفطام أطفالكم، فإنا نفرض لأطفال المسلمين منذ يولدون.
وكان عمر ينفذ أمر الله في أخذ الصدقات، ولكنه كان يتحرج في أخذها وتوزيعها تحرجا شديدا، والناس يعلمون أن أعرابيا سأل النبي ذات يوم: آلله أمرك أن تأخذ هذه الأموال من أغنيائنا فتردها على فقرائنا؟ فقال له النبي: اللهم نعم.
فكان عمر رحمه الله يعزم على سعاته أن يتحروا العدل في أخذ الصدقة من كل حي من أحياء العرب، وأن يردوا صدقة كل حي على فقرائه حتى يستغنوا عن المسألة، وأن يعودوا عليه بفضل ذلك؛ فإذا عادوا عليه بهذا الفضل حبسه على المصارف التي فرضها الله في القرآن، فأعان بها الفقير والمسكين وابن السبيل والغارمين، وما إلى ذلك من هذه المصارف التي ذكرها الله في آية الصدقات.
وما أذكر الاشتراكية وما أذكر الشيوعية، فلم يكن عمر صاحب اشتراكية ولا شيوعية؛ لأنه أقر الملك كما أقره النبي والقرآن، ولأنه أذن في الغنى كما أذن فيه النبي والقرآن. ولكن أذكر العدل الاجتماعي الذي يستطيع أن يتحقق في غير إلغاء للملك ولا تحريم للغنى، والذي تحاول بعض الديمقراطيات الحديثة أن تحققه محتفظة للمالكين بما يملكون، وللأغنياء بكثير مما يجمعون.
Unknown page