Fiqh al-sīra al-nabawiyya maʿa mujiz li-tārīkh al-khilāfa al-rāshida
فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة
Publisher
دار الفكر
Edition Number
الخامسة والعشرون
Publication Year
١٤٢٦ هـ
Publisher Location
دمشق
Genres
وتقريره. فلو أنه فعل كما فعل عمر، لحسب الناس أن هذا هو الواجب! .. وأنه لا يجوز أخذ الحيطة والحذر، والتخفي عند الخوف. مع أن الله ﷿ أقام شريعته في هذه الدنيا على مقتضى الأسباب ومسبباتها، وإن كان الواقع الذي لا شك فيه أن ذلك بتسبيب الله تعالى وإرادته.
لأجل ذلك، استعمل الرسول ﷺ كل الأساليب والوسائل المادية التي يهتدي إليها العقل البشري في مثل هذا العمل، حتى لم يترك وسيلة من هذه الوسائل إلا اعتدّ بها واستعملها، فترك علي بن أبي طالب ينام في فراشه ويتغطى ببرده، واستعان بأحد المشركين- بعد أن أمنه- ليدله على الطرق الفرعية التي قد لا تخطر في بال الأعداء، وأقام في الغار ثلاثة أيام متخفيا، إلى آخر ما عبّأه من الاحتياطات المادية التي قد يفكر بها العقل، ليوضح بذلك أن الإيمان بالله ﷿ لا ينافي استعمال الأسباب المادية التي أراد الله ﷿ بعظيم حكمته أن يجعلها أسبابا.
وليس قيامه بذلك بسبب خوف في نفسه، أو شكّ في إمكان وقوعه في قبضة المشركين قبل وصوله المدينة. والدليل على ذلك أنه ﵊ بعد ما استنفد الأسباب المادية كلها، وتحلق المشركون حول الغار الذي يختبئ فيه رسول الله ﷺ وصاحبه- بحيث لو نظر أحدهم عند قدمه لأبصر الرسول ﷺ استبد الخوف بقلب أبي بكر ﵁ على حين كان يطمئنه ﵊ قائلا: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟»، ولقد كان من مقتضى اعتماده على كل تلك الاحتياطات أن يشعر بشيء من الخوف والجزع في تلك الحال.
لقد كان كل ما فعله من تلك الاحتياطات إذن، وظيفة تشريعية قام بها، فلما انتهى من أدائها، عاد قلبه مرتبطا بالله ﷿ معتمدا على حمايته وتوفيقه، ليعلم المسلمون أن الاعتماد في كل أمر لا ينبغي أن يكون إلا على الله ﷿، ولكن لا ينافي ذلك احترام الأسباب التي جعلها الله في هذا الكون أسبابا.
ومن أبرز الأدلة على هذا الذي نقوله أيضا، حالته ﷺ عندما لحق به سراقة يريد قتله وأصبح على مقربة منه. لقد كان من مقتضى كل تلك الاحتياطات الهائلة التي قام بها أن يشعر بشيء من الخوف من هذا العدوّ الذي يجدّ في اللحاق به. ولكنه لم يشعر بشيء من ذلك، بل كان مستغرقا في قراءته ومناجاته لربه لأنه يعلم أن الله الذي أمره بالهجرة سيمنعه من الناس ويعصمه من شرّهم كما بيّن في كتابه المبين.
٣- وفي تخلف علي ﵁ عن النبي ﷺ في أداء الودائع التي كانت عنده إلى أصحابها دلالة باهرة على التناقض العجيب الذي كان المشركون واقعين فيه. ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه ويرونه ساحرا أو مخادعا لم يكونوا يجدون من حولهم من هو خير منه أمانة وصدقا،
1 / 138