خلدت «نهضة مصر» فخلدني تمثالها.
وفي الحق، إن مختارا مجموعة
Assortimant
تضم ألوانا من الغرائب والمتناقضات. ولعل ذلك هو الذي هيأ له كل هذا النبوغ العظيم. وإن مثالا - يتروى فنه في بلاد الغرب عن أكبر رجاله، ويظل السنين الطوال في ملابستهم ومحاكاتهم والتفطن إلى مداخل صنعتهم حتى يحذقه ويبرع فيه، ثم ينقلب إلى بلاده فإذا هو بصير بكل عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم ومحاضراتهم، وما جل ودق من شئونهم على تفرق طوائفهم واختلاف بيئاتهم - لهو جدير بأن يكون في فنه الحسان كل الحسان. •••
وقد نجم مختار من أسرة كريمة، فلما يفع أخرجته على العادة، للتعليم في المدارس الابتدائية، فمضى في درسه غير وان ولا متخلف، على أنه لم يكد يطوي في الطلب بضع سنين، حتى بدا ميله واضحا للرسم والتصوير، فلا يرى مكبا على درس إكبابه عليه في «حصة» الرسم، ولا يكاد يرى هو نقشا باديا أو صورة معلقة إلا وقف يتصفح ويتأمل ويشيع كل حسه في تقاسيمها ومتخالف خطوطها وتعاريجها، ثم استل ريشته وأدوات رسمه الصغيرة وراح يحكيها بكل ما تهيأ للموهبة الناشئة في ذلك الجرم الصغير، وظل كذلك عدة سنين لا يعدو منه الاجتهاد في طلب العلم على الاجتهاد في تربية تلك الملكة ما استطاع إليها السبيل.
وكانت مدرسة الفنون الجميلة التي أنشأها سمو الأمير البار يوسف كمال، فنزعت إليها نفس مختار، ولعله لقي من أهله في دخولها عنتا، وكيف لا تعنت إليها الأسر الطيبة، في مثل تلك الأيام، إذا رأت ولدها يميل عن طريق الحقوق أو الطب أو الهندسة، إلى طريق لا تنتهي بسالكها إلا أن يكون «مصوراتي» أو حفارا أو نقاشا؟! ...
وعلى كل حال فقد تم لمحمود مختار ما أراد من دخول مدرسة الفنون الجميلة، أو بعبارة أحكم: لقد تم ما أراد الله لمصر من أن ترى نابغة من أبنائها يخلد نهضتها على تطاول الأعصار!
وفي هذه المدرسة جعلت موهبة مختار تتجلى، وجعل أساتيذه يخصونه بعنايتهم لما أنسوا فيه من مخايل تدل على مستقبل عظيم، وبقي هو، طول مدة الطلب، مجليا لا يلحق: إكبابا على الدرس، واجتهادا في التمرين، وتوافيا لكل دقيق من ملاحظات الأساتيذ، حتى إذا برع بقدر ما يمكن أن يبرع طالب في مدرسة الفنون الجميلة في مصر، رأى أن ظمأه للفن لا ينقعه إلا أن يغترفه من أصفى ينابيعه، فشخص من فوره إلى باريس وانتظم في أعظم معاهدها، أشخصه إليها كذلك سمو الأمير يوسف كمال، وظل يتعلم على أكبر أساتيذها عشر سنين متواليات ما أحسبه انحدر في خلالها إلى مصر مرة واحدة، واجتمعت شهادة أقطاب الفن هناك على أن هذا الفتى «المصري» ولا فخر ينبغي أن يكتب في جريدة كبار المثالين. ويعهد إليه في «معهد جريفان» بمنصب كبير، وما كان هذا ليسوغ لأجنبي قط لولا نبوغ مختار الذي أوفى على كل تقدير.
ويشاء الله لمصر أن تنبعث، ويشاء لها نهضة قوية يلتفت لها العالم كله، فتثور موهبة مختار هناك وتأبى ثورتها أن تهدأ إلا إذا كشف سر أبي الهول الذي ظل محقونا في أطواء صدره المقبوض آلاف السنين، وإذا أبو الهول ناكس الرأس من وجد وأسى على مصر الأسيرة العالية ، وإذا أبو الهول يرفع رأسه وينبعث؛ لأن مصر نهضت تفك أغلالها لتسعى في أرض الله سعي الأحرار.
وكذلك خرج تمثال «نهضة مصر» فتاة فلاحة تبعث أبا الهول فيتحفز للوثاب، ويتهيأ للغلاب.
Unknown page