28

وظل الدكتور برغم طول المدى وذيوع الأخبار «بشلحه» مصمما على أنه ما زال عضوا في الوفد. وقد جادله بمحضري في ذلك قوم، فكانت كل حجته أن محمدا أفندي - كذا - قابله يوما فحياه، وقال له: «يعني ماحدش بيشوفك يا دكتور؟!» ومحمد أفندي هذا يزور السيد حسين القصبي أحيانا، فلا بد أن يكون سمع هذا من الوفد، فكيف تزعمون بعدها أنني لم أبق عضوا في الوفد؟

هذا كلام له خبيء

معناه: ليست لنا عقول

ومن أظرف نوادره، أنه في غيبة الرئيس الجليل حدثت بينه وبين بعض رجال الوفد جفوة، فانقطع عن زيارة بيت الأمة، فقيل له: إن السيدة أنيسة الرشيدي نازلة بدارك، وهي تستقل كل يوم مركبتك إلى الأمة، والناس كلهم يعرفون «مكسويني» وإنهم ليرونه هناك فلا يشكون في أنك الزائر! فقال: لقد نبهنا على الأوسطى «علي» إذا نزلت السيدة أن يقف على الرصيف الثاني احتجاجا!

وكانوا يرشحون لمناصب المفوضين والقناصل لتمثيل مصر في البلاد الأجنبية، فتقدم الدكتور، فقيل له: ولكنك حذقت الطب. أما التمثيل السياسي فشيء آخر. فقال: ومن أخبر به منا يا ولدي! لقد عجناه وخبزناه، فقد كنا في «جنيف» وكان يجلس معنا أحيانا على بعض قهواتها سكرتير قنصل إنجلترا وتناول الشاي معنا مرارا! ... •••

والدكتور محجوب ثابت عريض الألواح بعيد مدى العظام لولا أن في جسمه رهولة، أميل إلى الطول، فإذا مشى خلته أحدب وما به حدبة، ولكنه انحناء الظهر من ثقل التبعات لا من ثقل السنين. عريض الجبهة إلا أن أسفل وجهه أعرض من أعلاه. يرسل سبلته وعثنونه وشعر عارضيه في هيئة لطيفة مقبولة، وله عينان رقيقتان ترتسم في بياض كل منهما دائرة تحيط بدائرة حتى تنتهي إلى إنسانها، وهما دائمتا الحركة والاختلاج. وهو بعد طيب القلب، مكفوف الأذى، عذب الروح، حلو الحديث، ضحوك السن، يتحرى في قوله غريب اللغة، ويلتمس الشاهد من مأثور شعر العرب، وقد يجيء به أحيانا مكسورا غير متزن. أما قافاته فحدث عنها ولا حرج. جزت بداره مرة فرأيت بنتين صغيرتين تتلاعبان، فقالت إحداهما للأخرى: هذا بيت الدكتور، فسألتها: ومن الدكتور؟ فقالت لها: ألا تعرفين الدكتور الذي يقول يا بنت هاتي القبرة! «الإبرة».

وفيه ذكاء حاد، يديم القراءة والنظر في الكتب وكأنه يحفظ بظهر الغيب كل ما يقرأ، تعرف هذا من علمه الواسع الذي يكاد يستغرق كل ما في الدنيا وكل أسبابها، إلا أن علمه - مع الأسف - يختلط بعضه ببعض، حتى ليخيل إليك أن رأسه «كتبخانة مدشوتة». ولو قد ملكت أمره، وكانت لي بسطة في المال والسلطان لدعوت بمستشرق ألماني فني؛ لينظم هذه المكتبة العظيمة فيضم كل شكل إلى شكله، ويجمع كل جنس إلى جنسه، ويرد كل معنى إلى بابه، ويصف كل فن في «دولابه».

ومن أخص صفات الدكتور ثابت، أنه لا يكاد يشعر بمرور الزمن، وإذا كان من آية يوشع أن الشمس رجعت له مرة، فإن من آية دكتورنا عند نفسه أن الشمس تثبت له موضعها على طول الزمان، فأنت إذا دعوته ليتناول الغداء معك أقبل عليك الساعة 5 بعد الظهر حتما في غير ورع ولا اعتذار. ولقد دعاه صديق لي وله لتناول الإفطار في رمضان ولبثنا ننتظره برهة، فلما أيسنا منه أفطرنا، وفي نحو الساعة الحادية عشرة أقبل الدكتور مشمرا للفطور، وما كان أشد دهشته «يقينا» إذ علم أننا أفطرنا من أربع ساعات فانطلق يزمجر و«يزوم»، ويعتب ويلوم!

ومما يذكر للدكتور في هذا الباب أنه ما أدرك قط القطار الذي يعتزم السفر فيه، حتى تقرر عند جميع أصدقائه أنه إذا آذنهم بالسفر إلى بورسعيد في قطار الساعة 7 صباحا شخصوا إلى المحطة لتوديعه في قطار الساعة 11، وإذا آذنهم بالسفر إلى الإسكندرية في قطار المفتخر، كانوا في وداعه بقطار الساعة 7 مساء.

وسافر مرة إلى الإسكندرية لوداع الآنسة سنتيا موير الصحفية الأمريكية، وأخذ تذكرة للذهاب والإياب على أن يعود من يومه، فلبث هنالك قرابة شهرين ونصف شهر.

Unknown page