Fikr Carabi Hafith
الفكر العربي الحديث: أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي
Genres
ولسنا نظن أنفسنا بحاجة إلى المعارضة بين التيار الفكري السياسي الذي تمثله تلك المقطوعة والتيار الفكري السياسي الحميدي كما عرفناه في مقال الدكتور شاكر الخوري؛ فإن نقاط الخلاف والتناقض بين التيارين ظاهرة للقارئ.
ويلاحظ من المقطوعة أيضا أن الأعلام من مفكرينا وأدبائنا لم يكتفوا بالنظر إلى الثورة الفرنسية، بل نظروا معها إلى الإسلام ومبادئه، فوجدوه يؤيد مطامحهم في الإصلاح والشورى والدستور (وهذه شعبة من الموضوع سنعالجها معالجة خاصة).
واندفعت هجمة فكرية عنيفة على الاستبداد الحميدي في سبيل الحرية والدستور والإصلاح، فكان الانقلاب العثماني سنة 1908، ولكن بقوة الجيش. واستمرت اليقظة العربية الفكرية، وقد كانت - وما برحت - للثورة الفرنسية يد قوية فيها.
وسبيلنا في هذا الفصل أن نعرض لقافلة من كتابنا ومفكرينا الذين تأثروا بالثورة الفرنسية ومبادئ أعلامها. وسنرى أن القافلة عظيمة حقا تكاد لا تخلو من اسم كاتب أو مفكر عربي شهير، وغني عن البيان أننا سنقتصر على أسماء الذين كان تأثرهم واضح السمة، عميق الطابع.
وليكن ابتداؤنا بالسيد جمال الدين الأفغاني (1254-1314ه/1839-1897م). وهو وإن لم يكن عربيا، فقد اتصلت حياته اتصالا وثيقا بالشرق العربي، وأتقن اللغة العربية وله فيها آثار أدبية (كلمات وخطب مقطعة ورسائل) تنزله منزلة الأديب العربي.
ولسنا نعلم كيف بدأ اطلاع الأفغاني على الثورة الفرنسية ومبادئها، لكننا نعلم أنه انضم إلى الحركة الماسونية في مصر أيام الخديوي توفيق، والتحق بالمحفل الاسكتلندي؛ ظنا منه أن الماسونية حركة تحريرية. ولا يزال هناك اعتقاد إلى اليوم بأن الماسونية لها يد قوية في جميع الثورات ومنها الثورة الفرنسية، على أن التحقيق التاريخي - كما يقول زيدان
6 - دل على أن هذا الظن لا يستند إلى أساس. وبالفعل اصطدم الأفغاني بخيبة مرة لما رأى أن المحفل الاسكتلندي الذي التحق به جعل من شعاراته: «الماسونية لا دخل لها في السياسة!» فألقى كلمات نرويها كما حفظها لنا السيد محمد باشا المخزومي مؤلف كتاب «خاطرات جمال الدين الأفغاني الحسيني»، وهو أوسع كتاب في موضوعه. قال الأفغاني:
إذا لم تدخل الماسونية في سياسة الكون، وفيها كل بناء حر، وإذا آلات البناء التي بيدها لم تستعمل لهدم القديم ولتشييد معالم حرية صحيحة وإخاء ومساواة، وتدك صروح الظلم والعتو والجور، فلا حملت يد الأحرار مطرقة حجارة، ولا قامت لبنايتهم زاوية قائمة ...
أول ما شوقني للعمل في بناية الأحرار عنوان كبير خطير: حرية، مساواة، إخاء - غرض منفعة الإنسان، سعي وراء دك صروح الظلم، تشييد معالم العدل المطلق - فحصل لي من كل هذا وصف للماسونية، وهو همة للعمل وعزة نفس وشمم واحتقار الحياة في سبيل مقاومة الظلم.
وظاهر ما في هذا الكلام من تأثر بشعارات الثورة الفرنسية. ولما لم ير السيد الأفغاني أن اشتراكه في المحفل الاسكتلندي يهيئ له ما يريد من النشاط والتوجيه السياسي، أنشأ محفلا وطنيا تابعا للشرق الفرنسي، وركز جهوده على المطالبة بدستور ومجلس شورى، مستندا إلى ما تأثر به من شعارات الثورة الفرنسية ومبادئها، مستمدا من روح الشورى في الإسلام، مقتنعا بأن الإصلاح الداخلي في طريقة الحكم يقوي الشرق في ثباته للغرب الزاحف عليه. وترتبط سيرة جمال الدين الأفغاني بثلاث حركات شورية في الشرق ، هي: الحركة التركية الدستورية، والحركة المصرية النيابية في عهد الخديوي توفيق وبعده، والحركة الإيرانية النيابية أيام ناصر الدين شاه.
Unknown page