لقد مررت بك الآن مرة وثانية دون أن تنتبه إلي، فرأيتك غارقا في تأملاتك فاستلفتت حالتك نظري وشعرت بميل إليك لم أعرف له أولا سببا، ولكن لم ألبث أن ذكرت ما قيل: «إن الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر اختلف»؛ لذا وقفت أخيرا حيث رأيتني قادما محدقا بك النظر مفكرا، وأتيت بحركة تنبهت أنت إليها.
فبهت الشاب لهذا، وعرف حينئذ سر الانزعاج الخفي الذي شعر به قبل أن يرى الشيخ.
لقد ولدت يا بني على ما قيل لي من أبوين صالحين لم أعرفهما؛ لأنهما ماتا قبل أن أبلغ الرابعة من العمر، فربيت يتيما تتلاعب بي أيدي الأغراب إلى أن بلغت العاشرة. ففي ذات يوم بينما كنت ألعب مع أحد أولاد الجيران ونلاعب كلبا صغيرا نركض ذهابا وإيابا، والكلب يتبعنا متعبا، إذا دست على غير انتباه وقصد على رجل صاحبي؛ فآلمه ذلك؛ فأخذ يبكي ويصرخ، وقام ولطمني وجاء أخوه وأبوه وأشبعاني ضربا ولكما. ولما كنت يتيما وحيدا فقيرا لم أر أحدا يشفع لي بل إن الذين حضروا أخذوا جميعهم يلومونني ويعنفونني، فآلمني ظلمهم أكثر من ضربهم وتأنيبهم. ولم أزل لليوم أذكر هذه الحادثة التي كانت السبب فيما أنا فيه وعليه؛ لأني عندما تخلصت منهم جئت إلى الكلب الصغير، فحملته وسرت هائما على وجهي باكيا شاكيا ساخطا، فبت تلك الليلة جائعا في إحدى المغائر، وفي صباح اليوم التالي قمت مبكرا أحمل كلبي أبحث عن شيء نقتات به، فأبصرت من بعيد راعيا آتيا مع قطيع كبير من الغنم، فركضت إليه وقبلت يديه وطلبت منه قطعة خبز لآكلها مع كلبي، فهش في وجهي وبش، وسألني إلى أين أقصد، ومن أين أنا، ومن أنا؟ فأخبرته بجميع قصتي، فرق قلبه لي وفتح جرابه وأعطاني رغيفا، وأمسك أحد النعاج، وحلب منها قليلا من اللبن؛ وسقى كلبي. فأكلت الرغيف وأطعمت أيضا منه الكلب وفرحت جدا، وأنست بهذا الراعي وقمت إلى يده مرة أخرى أقبلها، وأردت متابعة السير فاستوقفني، وقال لي أن أبقى معه طول النهار، وفي المساء يأخذني معه إلى الدير، حيث إن هذا القطيع هو لأحد الأديار، وهكذا كان. ففي المساء جئنا إلى الدير وبعد أن أدخل الغنم الحظيرة ذهب وكلم أحد الرهبان فجاء إلي وأخذني بيده إلى الرئيس، فسألني عن قصتي فأخبرته بها من أولها إلى آخرها، فسكت قليلا وفكر ثم ضمني إلى صدره وقبلني، وقال لي: يا بني، اعلم أن الله - سبحانه وتعالى - قد سمح لك بهذا الشر كي ينتج لك منه خيرا، كما أن هذا الألم الذي نالك من ضرب هؤلاء الناس لك، لربما كان قصاصا عما آلمت به كلبك، ولكن لا بأس من هذا، فالنتيجة هي على كل حال خير لك، فإني أقبلك هنا وستكون في النهار مع الراعي تساعده على رعاية ومراقبة القطيع، وفي المساء سآمر أحد الإخوة بأن يعلمك أصول القراءة وقواعد الدين. ففرحت جدا جدا وشعرت بسرور داخلي وارتياح عظيم، فقبلت يدي الرئيس، وشكرت له هذا الصنيع. وهكذا بقيت في خدمة الدير اثنتي عشرة سنة أذهب في صباح كل يوم مع صديقي ومخلصي الراعي بطرس، يصحبنا كلبي الأمين بلبل؛ نرعى الغنم. وفي المساء نعود بها. وبعد العشاء كنت أذهب أولا في السني الأولى إلى معلمي الراهب يوحنا أتلقى عليه أصول القراءة والكتابة وأمور الدين، وبعد أن أتقنت هذه كلها كنت أختلي إلى مكتبة الدير أطالع الكتب فيها إلى قرب نصف الليل، محاولا فهم ما فيها وتطبيقه على ما كنت أشاهده أو أسمعه أو يجول بخاطري. وكنت أكثر الحديث مع الرهبان ومع بطرس؛ مستفهما عن كل شيء خصوصا مع صديقي هذا الأخير؛ حيث كان الوقت متسعا لنا، وأمامنا من الطبيعة كتاب لا نهاية له نأخذ عنه دروسنا ونروض الفكر على ما كان يبدو لنا من الأسرار. فحقا يا بني إن الطبيعة لهي أعظم أستاذ يعطي دروسه بسخاء وعن ينبوع لا ينضب لكل من يسترشد به، ويأتي إليه يستنير بنبراسه، فالدارس على الطبيعة الآخذ عنها حكمته وعلمه يكون حقيقة حكيما عالما؛ فينفتح أمامه كتاب الكون يقرأ فيه كما تقرأ أنت في صحيفة الأخبار، بشرط أن يواجهها بأكملها ومن كل الوجوه، وليس من جهة أو من بعض الجهات.
ففي أحد الأيام بينما كنت مع بطرس نرعى القطيع على حسب المعتاد، وبلبل الكلب الأمين يركض إلى هنا وإلى هناك مراقبا حارسا، لاحظت على بطرس آثار ألم يكافحه ويريد أن يتغلب عليه ويخفيه عني، فسألته ما لك يا صاح؟ فإني أرى على وجهك وفي حالتك ما يدلني على أنك تتألم، فبماذا تشعر؟ قل لي لعلي أستطيع أن أفيدك بشيء. فشكرني وقال: صحيح ما لاحظت فإني طول الليلة الماضية وأنا على غير ما يرام ولكني عند الصباح آنست في بعض التحسن فقمت كالعادة، ولكن الآن عاودني الألم بشدة، لا يمكني من متابعة السير، فهات يدك ولنجلس تحت هذه الشجرة القريبة. ففعلت، وبعد أن أجلسته ذهبت إلى بعض الآبار واستقيت دلو ماء أتيته به، فغسلت وجهه ويديه ورجليه فنام قليلا، ولما استيقظ كان قد استراح بعض الراحة وهدأ الألم نوعا ما، ولكنه لم يلبث أن عاوده. حينئذ أشرت عليه بالرجوع بالغنم إلى الدير، فقبل، ورجعنا. وعند عودتنا أخبرت الرئيس والرهبان بالأمر، فحضروا إلى غرفته وسقيناه بعض العقاقير وعالجناه على قدر الإمكان، ولكن لم يصبح الصباح إلا وكان صاحبي ومنقذي بطرس قد فارق الحياة، فبكيناه جميعا بدموع حارة.
وبعد الصلاة عليه واريناه التراب في مقبرة الدير.
أما بلبل فإن حزنه قد فاق حزننا جميعا، فإنه عندما رافقنا إلى المقبرة ورأى ما حل بفقيدنا، انقطع عن الأكل وذهب عنا واختفى، وبعد بضعة أيام وجدناه ميتا على قبر بطرس، وهكذا فقدت رفيقي وأصبحت وحيدا مرة أخرى. عندئذ اشتد بي الحزن وصغرت في عيني الحياة، ولم أعد أطيق القيام في الدير؛ فاستأذنت الرئيس وودعت الرهبان والأسى ملء القلب، وأخذت هذه العصا وهذا الجراب وهما من مخلفات بطرس، وسرت هائما على وجهي من تلك الساعة إلى الآن حيث تراني معك. فتأثر الشاب من هذا الحديث ونظر إلى الشيخ نظرة إشفاق كأنه يشاركه في كل ما حل به من المصائب، وود لو ساعدته الظروف ليكون معه دائما ملازما؛ كما كان هو فيما مضى مع بطرس، ولما كان الوقت قد مضى وقد تأخر عن ميعاد رجوعه إلى منزله دعا الشيخ إلى المبيت عنده؛ كي يتابع الحديث، فاعتذر الشيخ عن قبول الدعوة بكل لطف ووعده باللقاء في الغد في المحل ذاته، فتفارقا على أمل المقابلة في الغد يفكر كل في صاحبه كأنهما يعرفان بعضهما من سنين؛ حيث إن هذه البرهة الوجيزة التي قضياها سويا كانت كافية لتمكين عرى التعارف لا بل الصداقة بينهما. ولا غرو، فإن هذا الأمر يكثر حدوثه جدا بين الناس وحتى بين الحيوانات عند تجانس الدم والروح.
الفصل الثالث
هل يوجد خير أو شر في الحقيقة؟ أم أن ما نظنه خيرا لنا هو شر للغير والعكس بالعكس. ***
في اليوم التالي في الوقت المعين أقبل صاحبنا الشاب نجيب، وجلس على المقعد حسب المعتاد، ولم تمض برهة قصيرة حتى حضر شيخنا، وبعد تبادل التحية والسلام قال له نجيب: والله يا شيخي إني لم أذق مرارة الانتظار مثل الليلة، فقد كانت كل دقيقة منها بيوم، وكل ساعة بشهر. فتبسم الشيخ وقال: وهذا ما كان عندي أيضا، ولنعد الآن إلى الحديث.
من سياق كلامي لك أمس يتضح أنني تركت الدير وعمري اثنتان وعشرون سنة، وقد بلغت الآن السبعين، فثمان وأربعون سنة قضيتها كما تراني الآن متجولا من بلد إلى بلد، فزرت معظم الأقطار، واختلطت بجميع الشعوب؛ من هنود وصينيين وعجم وعرب وزنوج. ورحلت أيضا إلى أوروبا وشهدت ما يسمونه عظمة التمدن الحديث، ومن هناك قيض الله لي من استصحبني إلى أمريكا؛ حيث مكثت ثماني سنوات، فبحثت ونقبت وراقبت؛ فدهشت، ولكن دهشتي لم تكن لأمر جديد وقفت عليه ، ولو أن أشياء كثيرة يمكن عدها جديدة لاختلاف مظاهرها عند الناظر إليها سطحيا، بل إن دهشتي هي لأني رأيت وتحققت بأن لا شيء جديد تحت الشمس، أو بالأعم لا شيء جديد في العالم أجمع. فالطبيعة واحدة، وسننها واحدة، تتمشى على أنظمة وخطط ثابتة واحدة، والويل لمن عارضها، فسبحان تلك القوة الخالقة المدبرة الفائقة، فلا شيء يخلق نفسه ولا شيء يفنى، بل إنه يخرج من الينبوع العظيم ويعود إليه. ولو اختلفت طرق العودة بالتحول من شيء إلى آخر حتى ظن بعضهم أن الفناء حاصل، مع أن الحقيقة لا فناء بل تحول، بل رجوع إلى الأصل كما سترى فيما بعد.
Unknown page