قال اللورد «كرومر»:
ولا أشك أن تلك التجارة قد راجت رواجا شديدا في مصر، لا سيما في ثغر الإسكندرية، وقد نفي كثيرون ممن كانوا يتناولون تلك البضاعة، وقد أثر نفيهم تأثيرا نافعا، واعتبر بهم غيرهم من أهل الشر والفساد، وقد قام الكونت «منسي» وبعض أفاضل الإفرنج بتأسيس ملجأ للفتيات المسكينات اللاتي يقذف بهن الدهر إلى الإسكندرية. انتهى.
قال «القارئ الناقدي»: ولم يكن يجول بخاطرنا يوما أن ذلك السياسي العظيم يصل إليه صوت هؤلاء النسوة المسكينات اللاتي أوقعهن القضاء ورمى بهن القدر في مخالب ذئاب الهيأة الاجتماعية، ولو كانت أمم الأرض طرا تفتخر بأنها محت آثار الذل والاستعباد وهدمت أسواق الرقيق فإن ذنوب الفتيات اللاتي يؤتى بهن من بلاد بعيدة لتعرض أعراضهن في سوق الفساد لا تزال واقعة على رءوس تلك الأمم.
ولو قام الكونت منسي وإخوانه بتأسيس ملجأ يلجأ إليه هؤلاء النسوة المسكينات فأحرى بأغنياء المسلمين في ثغر الإسكندرية وغيره أن يؤسسوا جمعية تشبه جمعيتهم لمحاربة الذين يجرون النساء المصريات الجاهلات إلى الفحش والعار.
انتهى ما جاء في صحيفة الإكسبريس.
ونحن نضم صوتنا إلى صوت الإكسبريس، ونقول إن تأسيس ملجأ للنساء البائسات خير ألف مرة من تأسيس مستشفى للمجاذيب؛ لأنه إذا صلحت المرأة صلحت العائلة ولو صلحت العائلة صلح كل شيء.
المرأة! المرأة! تلك المخلوقة الضعيفة يجب إصلاحها؛ لأنها وا أسفى عليها لا تستطيع أن تدفع عن نفسها أذى ذئاب المدنية، وإن قدرت فهي لا تريد، ولا أدري على رأس من يقع ذنبها؟ فإن المسكينة تسقط بسرعة، ولو سقطت فليس لها من يرفعها؛ فيدوس عليها الرجال وهي تستغيث بهم وهم لا ينجدونها، حتى تكتم في نفسها أنفاس الطهر وتبقى كالحيوان يأكل ويشرب وينام، وتموت من قلبها عواطف الحب والشرف. ومن العجيب أن الناس يحتقرون المرأة الساقطة وهي جديرة بالشفقة والحنان، وينظرون إليها بعين الإهانة وهي جديرة بالإكرام. وما أجمل كلمة فكتور هوجو التي قالها:
لا تلم المرأة الساقطة في مهاوي عارها؛ إنك لا تدري تحت أي حمل سقطت من أحمال الدنيا وأثقالها.
وقد اختلفت آراء الناس في ذنب المرأة الساقطة، أيقع عليها أم على الهيئة الاجتماعية؟ وعندي لتلك المسألة ثلاثة أجوبة: الجواب الأول بقلم كاتب فاضل يكتب في مجلة «السيدات والبنات»، والجواب الثاني بقلم شيخ الفلاسفة الكونت تولستوي الروسي، والجواب الثالث من عندي. وهاك الجواب الأول:
منذ بضع سنوات كان في أحد المخازن بشارع شريف باشا فتاة أوروبية تدير شئون المخزن، ولا تسلني عن نوع البضائع والسلع التي كانت في المخزن؛ لأنني إذا ذكرتها وكنت إسكندريا خشيت أن تعرفه. وكنت أتردد على هذا المخزن لشراء شيء منه، فكلما دخلت وجدت الفتاة كسيدة حقيقية جالسة إلى مائدة جميلة تكتب وتأمر وتنهى والمستخدمون طوع أمرها، وكان الواحد منهم إذا خاطبها يخاطبها بكل احترام، ولا يكون خطابه إلا قوله باللغة الفرنساوية: «تحت أمرك يا مدموازل.» «نعم يا مدموازل.» «حاضر يا مدموازل.» أي إنها كانت سائدة في ذلك المخزن سيادتين: سيادة رئيس العمل وسيادة الجمال؛ ذلك لأنها كانت رائعة الجمال ، وكان لها ابتسام ملائكي وجبين نقشت عليه الطهارة وثغر كزر الورد عند تفتحه، فكنت إذا دخلت لأبتاع شيئا بفرنكين خرجت وقد ابتعت بأربعة؛ إذ أخجل من إضاعة وقتها بشيء قليل، وكنت في مخاطبتها أحترمها وأجلها كما أحترم أكبر سيدة؛ لما رأيته من أدبها ورقتها وقوتها.
Unknown page