وكانت عادة منيرة أنها لا تخرج من غرفتها هي ومختار قبل الظهر، فلما جاء الظهر لم تخرج، فدق الخادم الباب فلم يجبه أحد، فأخبر أم منيرة بذلك، فدقت الباب دقا عنيفا فلم تسمع صوتا ولم يجبها أحد، فخافت أن يكون حدث ما لا تحمد عاقبته، وأخبرت الجيران بذلك، فاجتمعوا رجالا ونساء وكسروا الباب ... ورأوا منظرا محزنا هائلا ...
رأوا مختارا في وسط الغرفة ورقبته مربوطة بشريط طويل إلى عمود السرير، وعيناه مفتوحتان، ووجهه أزرق، ولسانه خارج، ثم نظروا فإذا بمنيرة في السرير وهي لابسة قميصا أحمر، وفي رقبتها أثر الأصابع وعيناها مغمضتان وجبينها بارد.
وهكذا خنق مختار منيرة، ثم خنق نفسه، فانتهى مرضه بالجنون كما قال الطبيب. •••
ثم تنهد محدثي واغرورقت عيناه بالدموع، فمسحها وسكت، وكان الليل قد شاب وغطى المشيب بالزعفران، فقمت من عنده وأنا حزين مغموم، ولما وصلت داري كانت الشمس قد أشرقت، فبدأت أكتب هذه القصة، ولم ألق القلم حتى أتيت على آخرها ...
ونحن الآن نختم هاتين الحياتين المحزنتين؛ حياة المرأة المظلومة الظالمة التي أساءت إليها القوة القادرة التي تحكم هذه العالم، وأساء إليها كل من عرفها، وحياة الشاب الساقط المسكين الذي وقع معها في هوة الانحطاط، ولا ندري أين هذه المرأة وأين هذا الرجل، أهما في جنة تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، على الأرائك متكئين، تطوف عليهما غلمان كاللؤلؤ المنثور، بأكواب من فضة ختامها من مسك، أم هما في جحيم وقودها الناس والحجارة واقفين على حجرين من نار يغسلان ذنوبهما بماء من نار، وتبدل جلودهما كلما فنيت، أم نفساهما في الهواء الرحب لا تستقران، على حال من القلق تطيران من كوكب إلى كوكب ومن عالم إلى عالم حتى تهلكا ...
سلام! سلام! على تلك النفوس التي أساءت إليها الإنسانية وأجسامها تئن تحت التراب، وهي تائهة بين الأرض والسماء، تجذبها أخواتها إلى العلى، وتهبط بها ذنوبها إلى أسفل سافلين ...
خاتمة
إن القلم الذي كتب هذه القصة لم يكتبها طمعا في المال أو الشهرة؛ لأنه لا يحبهما، ولم يكتبها لتكون نصيحة وعظة للقارئين، فإن الأمل في قبول النصيحة ضعيف، ولم يكتبها لينزعج الشبان الغارقين في بحر السرور، فإن إقلاقهم حرام وهم في ربيع الحياة ... ولم يكتبها لتكون فكاهة لفئة المشغوفين بمطالعة الروايات، ولم يكتبها ليقرأ تقريظ الصحف ومدح الأصحاب، فإن كل هذه البواعث التي تبعث إلى كتابة الكتب فقاقيع فارغة.
إنما هذا القلم كتب تلك القصة ليخدم نفسه، فإذا كسر بعد كتابتها بيوم، فهو ينام هادئا مستريحا، ويقول كما قال «تشارلس ديكنس» في آخر إحدى قصصه: «الآن تممت واجبي.» ونحن نقول: الآن أتممنا واجبنا، ورفعنا الحمل الثقيل الذي أنقض ظهرنا، تلك الآلام التي كانت تجول في صدرنا قد ذهبت!
النار التي كانت مشتعلة في نفسنا صارت نورا! إن القلم الذي كتب هذه القصة كتبها بعد أن هزأ بالحياة وسخر منها، بعد أن احتقر الإنسانية، بعد أن زهد في كل شيء.
Unknown page