فهاج الناس وماجوا، وانقلبت قاعة الموت من السكون والتأمل إلى الصراخ والعويل والبكاء، وفي الحقيقة لم يكن في القاعة باك بقلب كسير غير أختي التي أحست بالسهم الذي أصابها به الزمن بموت أمها، فإنها جلست في ركن ووضعت رأسها بين يديها، وبقيت تبكي وهي شاخصة إلى جثة أمها تارة وطورا إلى صورة أبيها، كأنها تقول: هذان جنيا علينا وما جنينا على أحد، وبعد قليل خرجت أضرب في ظلام الليل الحالك لأجهز لزوم المشهد. •••
ولم يكن يظن مختار بأن أمه غالية، وأنه يوم دفنها دفن معها في التراب كل راحة وهناء، فلما ماتت وعاد إلى داره ولم يجد فيها غير أخته والخادم الصغير علم حقيقة أنه فقد بموت أمه نعمة عظيمة كانت عنده ولم يكن يقدرها حق قدرها، أما حال أخته فكانت محزنة للغاية؛ لأن أمها كانت رفيقتها الوحيدة، وهي التي كانت تؤنسها في وحشتها، فلما ماتت تركتها بلا مؤنس ولا رفيق فريسة للهموم والأحزان.
وأما مختار فقد أثرت حال أخته فيه قليلا وتحركت في قلبه عواطف الشفقة والحنان، فكان يلتمس أوقات أنسه مع حبيبته في النهار، فكان يخرج من محل عمله إلى دار معشوقته فيجدها في سبات عميق فيوقظها ويتغدى معها، ثم يصرفان بقية النهار في السرور والأنس، ويبقى معها حتى تذهب إلى مرقصها فيصحبها ويلازمها هناك حتى نصف الليل ثم يعود إلى أخته.
ولم يكن لمختار وأخته أقارب أو أصحاب تذهب إليهم أو يأتون إليها في غيبته، فكانت طول يومها حليفة الهم والأسى وطول ليلتها حليفة الأرق والسهاد.
الفصل العاشر
حدث صديقي قال: أتى إلى مصر من بلاد الجزائر رجل تاجر، اسمه الحاج حسن الجزائري، واستوطن مدينة الإسكندرية، وكان نبيها ذكيا ومعه قليل من المال، فاتجر في ماله القليل، ورزقه الله بنتين وولدا، وجاءت البنتان جميلتين رشيقتين، لأن أهل الجزائر مشهورون بالجمال، وأرض مصر تكسب الرقة والرشاقة، وكانت كبيرة البنتين اسمها عزيزة والصغيرة اسمها زبيدة.
وحدث أن عزيزة لما بلغت مبلغ النساء تزوجت بمغربي غني عجوز أرغمها أبوها على الزواج به لشهرته وماله، وبعد زواجها بقليل مات زوجها وعادت عزيزة إلى دار أبيها غنية وجميلة وصبية، أما الرجل أبوها فكان مدمنا على شرب الخمر، وقد قيل: إنه فر من بلاد الجزائر لجريمة اقترفها، وكان يدور على بعض الألسنة أنه كان للحاج حسن أب غني مريض، وكان يقتر على ابنه، فدس الحاج حسن السم لأبيه، فمات وورث الولد كل مال أبيه ثم خشي أن يفتضح الأمر ففر إلى مصر، وكأن ذكرى تلك الجريمة كانت تؤلم ضميره، فكان يفر منها ويلجأ إلى شرب الخمر، وهي التي كانت تسكن أشجانه وتقتل همومه، وقد أضعف ذلك أعصابه ، وكان الرجل نحيلا نحيفا، فأصابه شلل في نصف جسمه الأيسر، وبقي طريح الفراش، وكان ذلك بعد زواج بنته عزيزة بقليل، فلم تدخر زوجته وسعا في سبيل شفائه، ولكن كل أتعابها ذهبت هباء منثورا، وبقي الرجل مقعدا، ولزم غرفته ثلاث سنين، وكنت تدخل تلك الغرفة فترى فيها سريرا صغيرا عليه رجل نحيل أصفر جالس وفي يده كتاب، فلما يحس بك يرفع إليك ببصره ببطء شديد، ثم يحدق بك، ثم يعود إلى حاله التي كان عليها من الذهول والسكينة، ويظهر أن عقله أضعفته الخمر والمرض، أما لحيته فكانت سوداء، وكان وجهه جميلا.
وكان في أول المرض تجلس زوجته وابنته الصغيرة وابنه الذي لم يكن يتجاوز ست سنين، كلهم حوله يداعبونه ويؤنسونه ويحادثونه ويملئون قلبه بالآمال، أما بعد أن طال عليه المرض وقطع الرجاء من شفائه، هجرته زوجته وبنته إلا قليلا، وأوكلتا أمره إلى خادمة فقيرة كانت تتعهده، وتخدمه، وتغسل له وجهه، وتأتي له بطعامه، وقد سبب مرض الرجل نقص دخله؛ لأنه كان مجبورا على ترك العمل، وأوكل أمر تجارته إلى رجل غريب؛ لأن ابنه كان لا يتجاوز السنة السادسة، وأي غريب في هذه الدنيا توكل إليه أمرك ويصدق في خدمتك؟ وأي صاحب تأتمنه ولا يخون؟!
ولما عادت عزيزة إلى دار أبيها علمت أنه لا يملك لها خيرا ولا شرا، وأنها حرة تفعل ما تريد، وكانت تلك الحرية مصحوبة بالمال الذي ورثته عن زوجها، فخلا لها الجو، وأفسدها الشباب والفراغ، والجمال والمال، وعاشت كغيرها من السيدات الغنيات؛ أي إنها عاشت لشهوتها، وكانت تظن أيام زوجها أن كل الرجال مثله لهم لحى وشوارب، وأن كلهم عجوز مريض مثله، وما كان أعظم سرورها لما كانت تخرج وترى الشبيبة الناشئة، وفيها كل شاب أجرد أمرد لا نبات بعارضيه، حلو الفكاهة، رقيق الغزل، جميل الوجه، حسن الهندام.
نعم! نعم! هذا كان في نظر عزيزة منتهى السعادة، فأحست بعقلها وقلبها الفاسد أن مدينة الإسكندرية هي جنة على الأرض، وأن طرقها مسارح الغزلان، فكانت تخرج تلك الخبيثة تنصب حبائلها للشبان ، وكانت لها عجلة تكريها في كل يوم وتمر بها من الطرق، فإن رأت من استحسنته كانت تومئ إليه أو تبتسم له فيتبع عجلتها في عجلة، ثم يلتقيان.
Unknown page