فقال: «لا، ولكنه كبير السن وأولادى صغار ... ثم إنه لا يكلفهم أن يلووا أجسامهم ويصنعوا منها عقدة كعقدة الحبل.. كيف خطرت لك هذه الفكرة الخبيثة»؟
قلت : «لم يخطر لى شىء، وإنما كان هذا ما بدا لى أنه يكلف أولادك أن يصنعوه حين رأيتهم».
قال: «قم لتنام، وحسبك هذا طول العمر».
وقد صدق.. فما أزال أضحك إلى الآن كلما تذكرت تلك الليلة.
الفصل الرابع عشر
ثمن سيجارة
كم تظن السيجارة كان ثمنها فى سنة 1909م؟
لا أدرى ممن القارئ.. أمن الأيفاع الذين يزدان بشبابهم الغض هذا القرن العشرون، أم من المخضرمين الذين أدركوا - مثلى - القرن الماضى وهو يجود بأنفاسه، وأبوا إلا أن يركبوا هذا الزمن بشبابهم الدائم الذى يأبى أن يدركه الهرم أو يرده الشيب إلى تكلف الوقار؟ وإن كان - أعنى شبابهم المتلكىء - لا يمتاز لا بغضاضة، ولا ببضاضة. وليكن القارئ من شاء - من المحدثين أو ممن هم أحدث منه وإن كانوا أعلى سنا - فهذه فذلكة تاريخية يستطيع أن ينتفع بها إذا كان له من الذكاء حظ. وهل أحرص منى على فائدة القراء؟
كنت فى تلك السنة - سنة 1909م - قد تخرجت فى مدرسة المعلمين العليا، ومن كان يشك فى ذلك فليسأل وزارة المعارف فلن تحابينى. وكنا فى مقدمة الصيف، وكنت متعبا مرهقا - لا أدرى لماذا؟ فما أعرفنى عنيت بحفظ درس فى حياتى - فاستشرت طبيبا أو على الأصح ألح أهلى أن أستشيره، فقد صارت لحياتى قيمة بعد أن حملت هذه «الدبلوم» وبلغت بها مبالغ الرجال الذين يكسبون رزقهم وينفقون على سواهم. فلما فحصنى الطبيب، قال: «لا شىء.. يكفى أن ترتاح وتتنزه» قلت: «أين»؟ وكان ضيق الصدر فقال: «وهل أنا أعرف.. فى أى مكان غير البيت» فلم يحسن وقع جوابه فى نفسى، فقلت له: «وهل كنت تحسب أن بيتى منتزه يا أخى.. أم خيل إليك أنى بنت لا أعرف غير غرف البيت.. سبحان الله العظيم» وأنصرفت ساخطا.
وأوسعته ذما فى الطريق إلى بيتى - مزقته ونثرت لحمه وجلده للكلاب.. حتى الشعرات القليلة التى بقيت فى رأسه الأصلع انتزعتها واحدة واحدة، وسرنى أنه كان يتألم ويتلوى وأنا أشدها بأظافرى وأقتلعها من جذورها - بخيالى - وكنت أقول له: «هذا جزاؤك يا وقح.. عسى أن يعلمك هذا أن التهكم على الناس غير جائز».
Unknown page