بسم الله الرحمن الرحيم
إياك نعبد وإياك نستعين، وصل وسلم على رسولك الأمين، وآله وصحبه الأكرمين، وبعد فإني فكرت في عظم ذنب الغيبة وحقارة فعلها، وتساهل جل الناس بها، حتى صارت مألوفة غير منكورة، كأنها لم تكن أمّ كل محظور، تدار كؤوسها في المجامع، ويصغي إلى لحن شيطانها جميع المجامع، وما علم مرتكبها بوقوعه فيما هو أشد من الزنى، وأعظم جرمًا من الربا، وهو لو تحقق قد ساواهم وزاد، لكونه ذنبًا تعلقه بالعباد. فرأيت أن أذكر هنا بعض ما آتى في ذلك، فعسى أن نفسي الأمارة تكف عن بعض تلك المهالك، شعر:
لِنفْسِي أَبْكِي لَسْتُ أَبْكِي لِغَيْرِهَا ... لِنفْسِي فَفِي نَفْسِي عَنِ النَّاسِ شَاغِلُ
والله حسبي ونعم الوكيل.
1 / 13
الرسالة الأولى
تحريم الغيبة
اعلم أن الغيبة محرمة بالكتاب والسنة والإجماع، وحقيقتها هو ما سيأتي من قوله ﷺ: (ذكرك أخاك بما يكره وإن كان فيه) .
في القرآن الكريم أما الكتاب فقوله تعالى: (وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًَا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًَا فَكَرِهْتُمُوهُ) ففي هذه الآية من الزجر والتمثيل والتهويل ما يقشعر له الجلد: وقوله تعالى: (وَيْلٌ لِكُلٍّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)، قال الزمخشري: (الهمز: الكسر. واللمز: الطعن. يقال: لمزه ولهزه إذا طعنه، والمراد الكسر من أعراض الناس والغضّ منهم واغتيابهم والطعن فيهم) . انتهى.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس في تفسير الآية قال: (وَيْلٌ لِكُلًّ هُمَزَةٍ) قال الطعان، لمزة قال مغتاب. وقوله تعالى: (وَلاَ
1 / 14
تَلْمِزُوا أَنْفسَكُمْ) قال الزمخشري: اللمز: الطعن والضرب باللسان والمعنى وخصوا أيها المؤمنون أنفسهم بالانتهاء عن غيها والطعن فيها.
قال: قيل ومعناه: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) لأن المؤمنين كنفس واحدة. انتهى وأخرج عبد بن حميد والبخاري في الأدب، وابن أبي الدنيا وابن جرير، وابن المنذر والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في تفسير الآية قال: (لا يطعن بعضكم على بعض) .
وقوله: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ منّاعٍ للخير) قال الزمخشري: (هماز عياب طعان، وعن الحسن: يلوي شدقيه في أقفية الناس) انتهى.
وهذه الآية وإن لم تخرج مخرج النهي لكنها في معرض الذم.
فالأحاديث فيها كثيرة جدًا، وسأذكر ههنا ما وقعت عليه وهي ستة وخمسون حديثًا.
1 / 15
(ستة وخمسون حديثًا في تحريم الغيبة) الحديث الأول: عن أبي بكرة في ذكر خطبة حجة الوداع يوم النحر ومنها قوله ﷺ: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامُ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) الحديث الثاني: عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ فقال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته) .
1 / 16
الحديث الثالث: عن أبي هريرة أن رسول الله ﵌ قال: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولاتنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ههنا، التقوى ههنا، ويشير الى صدره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله) .
الحديث الرابع: عن ابن مسعود أن النبي ﵌ قال: (قتال المسلم كفر، وسبابه فسوق)
1 / 17
الحديث الخامس: عن عائشة: (اعتل بعير لصفية بنت حُييّ وعند زينب فضل ظهر فقال رسول الله ﵌ لزينب أعطيها بعيرًا فقالت: أنا أعطي تلك اليهودية، فغضب رسول الله ﵌ فهجرها ذا الحجة ومحرم وبعض صفر) .
الحديث السادس: عن ابن مسعود قال: كنا عند النبي ﵌.
الحديث السابع: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﵌: (خمسٌ ليس لهن كفارة: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وبهت مؤمن والفرار يوم الزحف، وعينٌ صابرة يقتطع بها مالًا بغير حق) .
1 / 18
الحديث الثامن: عن أنس قال:
(ذكر النبي ﵌ الكبائر، أو سُئلَ عن الكبائر فقال: الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور، أو قال: شهادة الزور) الحديث التاسع: عن ابن عمر قال قال رسول الله ﵌: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) .
الحديث العاشر: عن أبي موسى الأشعري أن النبي ﷺ سئل أي المسلمين أفضل؟ قال: (من سلم المسلمون من لسانه ويده) .
ولمسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ: (من سلم الناس)
1 / 19
الحديث الحادي عشر: عن معاذ قال: كنت أسير مع النبي ﷺ فقلت أخبرني عن عملٍ يدخلني الجنة فذكر النبي ﵌: (الصلاة والزكاة والصوم والحج والصدقة وصلاة الرجل في جوف الليل والجهاد ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله قلت: بلى يا رسول الله فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا. قلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثلكتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) .
الحديث الثاني عشر: عن عائشة ﵂ أنها ذكرت صفية فقالت: إنها قصيرة، فقال النبي ﵌: (قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) .
1 / 20
الحديث الثالث عشر: عن ابن عباس قال: (ليلة أسري بنبي الله ﵌ ونظر في النار فإذا قومٌ يأكلون الجيف قال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس) .
الحديث الرابع عشر: قوله ﵌: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء) .
الحديث الخامس عشر: عن عقبة بن عامر قال: قلت يا رسول الله ما النجاة قال: (امليك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك) .
1 / 21
الحديث السادس عشر: عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﵌: (الغيبة أشد من الزنى؟ قال: إن الرجل يزني ويتوب فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفرُ له حتى يغفرها له صاحبه) .
الحديث السابع عشر: عن أبي بكرة ﵁: (أنه مر مع النبي ﵌ على قبرين فقال النبي ﵌: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، ما يعذبان إلا في الغيبة والسبيل) .
1 / 22
الحديث الثامن عشر: عن أبي هريرة عن النبي ﵌ قال: (من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم) .
الحديث التاسع عشر: عن السُّدي أن: (سلمان الفارسي كان مع رجلين يخدمهما وينال من طعامهما، وأن سلمان نام يومًا وطلبه صاحباه فلم يجداه فضربا الخباء وقالا: ما تزيد سلمان شيئًا غير هذا، أن يجيء إلى طعام معدود وخباء مضروب. فلما جاء سلمان أرسلاه الى رسول الله ﵌ يطلب لهما إدامًا، فانطلق فأتاه فقال: يا رسول الله: حثّني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك. فقال: ما يصنع أصحابك بالإدام؟ قد ائتدموا. فرجع سلمان فأخبرهم فانطلقا فأتيا رسول الله ﵌ فقالا: والذي بعثك بالحق
1 / 23
ما أصبنا طعامًا منذ نزلنا فقال قد اغتبتم سلمان بقولكما، فنزل قوله تعالى: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا..) الحديث الموفي عشرين: عن عكرمة: (أن امرأة دخلت على النبي ﵌ ثم خرجت، فقالت عائشة: يا رسول الله ما أجملها وأحسنها لولا أن بها قصرًا فقال لها النبي ﵌: اغتبتِها يا عائشة؛ فقالت: إنما قلت شيئًا هو بها، فقال: يا عائشة إن قلت شيئًا بها فهي غيبةٌ، وإذا قلت ما ليس بها بهتها) .
1 / 24
الحديث الحادي والعشرون: عن عائشة قالت: (لا يغتب بعضكم بعضًا فإني كنت عند رسول الله ﵌ فمرّت امرأةُ طويلة الذيل فقلت: يا رسول الله إنها لطويلة الذيل، فقال النبي ﵌: الفظي فلفظت بضيعة لحمٍ) الحديث الثاني والعشرون: عن عكرمة: أن النبي ﵌ لحق قومًا فقال لهم: تخللوا، فقال القوم: يا نبي الله ما طَعِمنا اليوم طعامًا، فقال النبي ﵌: إني لأرى لحم فلانٍ بين ثناياكم، وكانوا قد اغتابوه) .
1 / 25
الحديث الثالث والعشرون: عن يحيى بن أبي كثير:
(أن نبي الله ﵌ كان في سفرٍ، وكان أبو بكر وعمر ﵄ معه، فأرسلوا الى رسول الله ﵌ يسألونه لحمًا فقال: أوليس قد طلبتم من اللحم شباعًا؟ فقالوا: من أين؟ فو الله ما لنا باللحم من عهدٍ، فقال من لحم صاحبكم الذي ذكرتم، فقالوا: يا نبي الله، إنما قلنا والله إنه لضعيف ما يعيننا على شيء، فقال أبو بكر: يا نبي الله طأ على صماخي وأستغفر، وجاء عمر فقال مثله ففعل وأستغفر) .
الحديث الرابع والعشرن: عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﵌: (من أكل من لحم أخيه في الدنيا قرب إليه لحمه في الآخرة فيقال له: كله ميتًا كما أكلته حيًا، فإنه ليأكله
1 / 26
ويكلح ويصيح) .
الحديث الخامس والعشرون: عن عبيد مولى رسول الله ﵌ أن: (امرأتين صامتا على عهد رسول الله ﵌ فجعلتا تأكلان لحوم الناس، فجاء رجل فقال: يا رسول الله إن ههنا امرأتين صامتا وقد كادتا أن تموتا، فقال رسول الله ﵌: ائتوني بهما، فجاءتا فدعا بعسٍّ أو قدح فقال لإحداهما قيئ فقاءت من قيح ودم وصديد حتى قاءت نصف القدح، وقال للاخرى: قيئِ فقاءت من قيح ودم وصديد حتى ملأت القدح، فقال
1 / 27
رسول الله ﷺ: إن هاتين صامتا عمّا أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس) .
الحديث السادس والعشرون: عن أم سلمة أنها سئلت عن الغيبة فأخبرت: (أنها أصبحت يوم جمعةٍ وغدا رسول الله ﵌ الى الصلاة، فأتتها جارةٌ، لها من نسائها فاغتابتا وضحكتا برجال ونساءٍ، فلم تبرحا على حديثهما من الغيبة حتى أقبل النبي صلى الله عليه وآل وسلم منصرفًا من الصلاة، فلما سمعتا صوته سكتتا، فلما قام بباب البيت ألقى طرف ردائه على أنفه ثم قال: أن اخرجا فاستقيئا ثم تطهرا بالماء، فخرجت أم سلمة فقاءت لحمًا كثيرًا، فسألها النبي صلى الله عليه وآل وسلم عما قاءت فأخبرته فقال:
1 / 28
ذلك لحمك ظللت تأكلينه فلا تعودي وصاحبتك فيما ظللتما فيه من الغيبة، فأخبرتها صاحبتها أنها قاءت مثل الذي قاءت) .
الحديث السابع والعشرون: عن أبي مالك الاشعري أن رسول الله ﵌ قال: (المؤمن حرام على المؤمن: لحمه عليه حرام أن يأكله بالغيبة وعرضه حرامٌ أن يحرقه، ووجهه عليه حرامٌ أن يلطمه) .
الحديث الثامن والعشرون: عن أبي هريرة أن: لِنفْسِي ما عزًا لما رُجم سمع النبي ﵌ رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب. فسار النبي ﵌ ثم مر بجيفة حمار، فقال: أين
1 / 29
فلان وفلانٍ؟ انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار. فقالا: وهل يؤكل هذا؟ فقال: ما قلتما من أخيكما آنفًا أشد أكلًا منه، والذي نفسي بيده إنه لفي أنهار الجنة يتغمس فيها) .
الحديث التاسع والعشرون: عن جابر بن عبد الله قال: (كنا مع رسول الله ﵌ فأتى على قبرين يعذب صاحباهما فقال: إنهما لا يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يغتاب الناس، وأما الآخر فكان لا يتأذى من البول) .
1 / 30
الحديث الموفي ثلاثين: عن جابر قال: (كنت مع النبي ﵌ فارتفعت ريح جيفة منتنة فقال رسول الله ﵌: أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون الناس) .
الحديث الحادي والثلاثون: عن أنس قال قال رسول الله ﷺ: (إذا أوقع في الرجل وأنت في ملأ فكن للرجل ناصرًا وللقوم زاجرًا، ثم تلا قوله تعالى: (وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًَا) .
الحديث الثاني والثلاثون: عن ابن عباس عن النبي ﵌ قال: (الربا نيف وسبعون بابًا أهونهن بابًا مثل من نكح أُمّهُ في الاسلام، ودرهم الربا أشد من خمس وثلاثين زينةَ،
1 / 31
وأشد الربا وأربى الربا وأخبث الربا انتهاك عِرضِ المسلم وانتهاك حرمته) .
الحديث الثالث والثلاثون: عن أنس قال: قال رسول الله ﵌: (لما عُرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريلُ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحم الناس ويقعون في أعراضهم.
الحديث الرابع والثلاثون: عن أنس: (أن النبي ﵌ أمر أن يصوموا ولا يفطرن أحدٌ حتى آذن له فصام الناس، فلما أمسى جعل الرجل يجيء إلى رسول الله ﵌ فيقول: ظللت منذ اليوم صائمًا فائذن لي فأفطر فيأذن له حتى جاء رجل فقال: يا رسول الله إن فتاتين من أهلك
1 / 32