إن الذي تحذرين قد وقعا
وما كنت أحذر الموت على ثروت، وما كنت أفكر في أن بينه وبين الموت سببا، وإنما كنت كغيري من الناس أقدر أن هذه الحياة القوية التي تنبعث منها حياة قوية إلى أمة بأسرها سيمتد أمامها الدهر، وستصل بها الأيام حتى تنتهي من غايتها إلى ما كانت تريد.
وكذلك نحن تعظنا الأيام فلا نتعظ، وتعلمنا الحوادث فلا نتعلم، وينبئنا كل شيء بأن حياتنا غرور، وآمالنا عبث، وأمانينا لعب، فنأبى إلا أن نؤمن لأنفسنا بطول المدة، وبعد الأمد، وقوة الأمل، وصدق الرجاء.
نؤمن لأنفسنا ولأصدقائنا بهذا كله، فإذا فاجأتنا الكارثة ودهمنا الخطب وجمنا، وأخذنا الذهول، وانقطع منا كل سبب، فلم ندر ماذا نصنع، ولا كيف نقول.
وكذلك كنت حين وقع علي هذا النبأ في طرف من أطراف فرنسا، وقد تهيأت للعمل شديد النشاط، مجتمع القوى، فما هي إلا أن أسمع ثروت ولفظ الموت حتى تنقطع الصلة بيني وبين من حولي وما حولي، وحتى يأخذني شيء كالإغماء العقلي؛ لا أفكر، ولا أعي، ولا أشعر، وإنما هما لفظان يترددان في نفسي ترددا متصلا: لفظ ثروت، ولفظ الموت.
ولقد تركته في مصر كأحسن ما عرفته قوة ونشاطا، وامتلاء بالحياة وابتسامتها، وأملا فيها، وازدراء لأحداثها وكوارثها.
ولقد كنت أقدر أن أراه في مصر بعد الصيف كما تركته قبل الصيف، فما عرفته قط إلا كذلك ممتلئا بالحياة، مبتسما لها، شديد الأمل في غد، قوي الازدراء لآلام أمس.
وهذه الصحف تنقل إلي الآن أنه مات في باريس.
وإذن فلن ألقاه، ولن أراه، ولن أسمع له، ولن أتحدث إليه، ولن أقصد إلى بيته إذا انحدرت الشمس في المساء أو ارتفعت الشمس في الضحى، ولن أجلس إليه، ولن أقضي معه هذه الساعات الحلوة التي كانت ترفه علي وتحبب إلي الحياة من حين إلى حين.
أنا غارق في هذه الحسرة، والناس من حولي يقرءون هذا النبأ ويرددون قراءته؛ يكذبونه مرة، ويصدقونه مرة أخرى، ويلتمسون العلل والأسباب لتكذيبه وتصديقه، ويرون لو استطاعوا أن أشترك معهم في هذا التكذيب والتصديق، وفي هذا النقد والتحليل، ولكن ما أنا وهذا اللغو؟ لقد وصل إلى نفسي اسم ثروت ولفظ الموت. أوليس هذا يكفي لأن أعود إلى رشدي وأخلص من غرور هذه الحياة، وأتبين مرة أخرى أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة لا غناء فيها، ولا ثقة بها، ولا معتمد عليها؟!
Unknown page