فتنفس الجمع الصعداء وخرج الملك يحيط به جنوده وحراسه، وهو يردد بينه وبين نفسه: وا رحمتاه لك أيها الفتى المسكين!
فتقدم الحراس إلى قسطنطين فقيدوه، وجاءت بازيليد فوقفت بجانبه، وقالت له بصوت خافت لا يسمعه سواه: نعم، إنني سأقضي ما بقي من أيام حياتي حزينة باكية متألمة كما قلت، ولكني قد انتقمت لنفسي، وحسبي ذلك وكفى. فلم يرفع نظره إليها احتقارا وازدراء، بل رفع رأسه إلى السماء وقال: قد كنت أسألك الموت يا رب في كل حين، وأضرع إليك فيه ليلي ونهاري، فبعثت به إلي، ولكن في أفظع صورة وأهولها؛ فامدد إلي يد معونتك ورحمتك لأستطيع أن أشرب الكأس حتى ثمالتها، وخذ بيدي في شدتي؛ فقد تخلى الناس جميعا عني، وأصبحت أحتمل ما أحتمل من الآلام وحدي، وليس بجانبي من يخفف عني لوعتي، أو يمسح بيده دمعة من دموعي.
فخرجت ميلتزا من وراء ستار كانت مختبئة في طياته وتقدمت نحوه وجثت تحت قدميه الموثقتين وقالت له: لست وحدك يا مولاي، فهأنذا! فتهلل وجهه بعد عبوسه وقال: أحمدك اللهم حمدا كثيرا. ثم خرج مع الجنود يرسف في قيوده حتى وصلوا به إلى السجن فأودعوه، وأوصدوا الباب من دونه، فربضت ميلتزا على عتبة الباب ربوض الكلب الأمين على قبر سيده الدفين، وأنشأت تندبه وتبكيه بكاء تهتز له جوانب الأرض وتتداعى له أركان السماء!
التمثال
انتصر الملك في الواقعة التي حضرها وقاد فيها الجيوش بنفسه انتصارا عظيما كان الفضل الأكبر فيه لتلك الروح الدينية التي كان يبثها في نفوس جنده أثناء المعركة، فقد كان يمشي بين الصفوف بطيلسانه الأسود، والصليب في يده، يهتف باسم المسيح والمسيحية وينادي: دافعوا يا أبناء يسوع عن دينكم وكنيستكم، واعلموا أنكم إن غلبتم اليوم على أمركم فلن تقوم للصليب قائمة أبد الدهر، وهم يستبسلون ويستقتلون ويصبرون للموت صبر الكرام، حتى برقت لهم بارقة النصر، فأطبقوا على جيوش العدو من كل جانب، فتقهقرت أمامهم إلى ما وراء الحدود، وتخلت عن جميع المعابر والجبال التي اجتازتها بالأمس، فاحتفل الشعب بهذا النصر احتفالا عظيما دام عدة أيام، ولم يكن للناس حديث فيه سوى حديث قسطنطين وجريمته التي اجترمها، والجزاء الذي سيلقاه في سبيلها، وكلهم يتمنى بجدع أنفه أن يشاهد مصرعه، ويرى دماءه تتدفق من بين لحييه.
ولم يزل هذا شأنهم حتى دنا اليوم الذي يجتمع فيه مجلس القضاء للنظر في تلك القضية، فذهب الملك ليلة المحاكمة إلى السجين في سجنه، وخلا به ساعة يسأله عن جريمته وشركائه فيها وأعوانه عليها، وحاوله في ذلك محاولة كثيرة فلم ينطق بشيء، ولا دافع عن نفسه بحرف واحد، حتى عي الملك بأمره، فأمر بإخراجه من السجن إلى الساحة العامة المقام فيها تمثال أبيه، وأمر أن يشد بأغلال إلى قاعدة التمثال نكاية به وتمثيلا، ثم قال له: انظر أيها الخائن ماذا بنى أبوك لنفسه من المجد، وماذا صنعت يدك بذلك البناء الذي ابتناه! وتركه وانصرف.
فلما انفرد بنفسه أطرق ساعة يفكر في شأنه وفي مصيره الذي صار إليه، ثم رفع رأسه إلى التمثال، وكان الليل قد هدأ وسكن ونامت كل عين فيه حتى عيون العسس والحراس، فأنشأ يناجيه ويقول: هنيئا لك أيها الرجل مجدك وعظمتك وتمثالك الشامخ الرفيع الذاهب بعلوه في آفاق السماء!
هنيئا لك الصيت البعيد، والشهرة الذائعة، والشرف الخالد المسجل لك في صفحات التاريخ، وأن الناس لا يمرون بتمثالك حتى يجثوا تحت قاعدته جثيهم تحت قدمي الإله المعبود!
أترى بعد ذلك أنك مظلوم أو مغبون، أو أن الضربة التي أصابتك من يدي قد حرمتك شيئا في هذه الحياة تندبه وتأسف عليه؟
لقد كنت في الساعة الأخيرة من أيام حياتك، ولم يكن بينك وبين الانحدار إلى قبرك إلا بضع خطوات قصار، فكل ما كان مني لك أنني أنقذتك من تلك الميتة الدنيئة السافلة التي كنت تريدها لنفسك، وقدمت إليك بدلا منها ميتة شريفة مقدسة ترمقها العيون، وتتقطع من دونها الأعناق، وألبستك تاجا أشرف من ذلك التاج الذي كنت تطلبه وتسعى إليه، وأجلستك على عرش أرفع من جميع عروش الأرض، وهو عرش التاريخ!
Unknown page