فظلت تغرس في نفسه هذه الأمنية الجميلة المحبوبة مدة من الزمان، وتسقيها بماء حسنها وجمالها، حتى ملأت بها فضاء قلبه، وشغلته بها عن كل شاغل سواها.
ولم يزل هذا شأنها معه حتى مات الملك ميلوش، وجاءت الساعة التي تنتظرها، فهتفت به: ها قد حانت الفرصة التي كنا نرقبها، وها قد بدأت تتحقق نبوءة ذلك العراف الخبير التي تنبأ لي بها، وما هو بالكاذب ولا المتخرص. ثم زجت به في طريق مزاحمة الأسقف أتين على الملك، فانقاد لها ومشى في الطريق التي رسمتها له، وأخذ يدعو الناس لنفسه، ويستكثر من سواد أشياعه وأنصاره، ويداخل أعضاء الجمعية الوطنية ويداهنهم ويتوسل إليهم أن يساعدوه على نيل أمنيته التي يرجوها، مدلا بمكانته من خدمة الأمة والوطن، وأياديه في الذود عنهما، وبما بذل من صحته وشبابه في مقاتلة الأعداء ومدافعتهم تلك السنين الطوال حتى اشتعل رأسه شيبا، ولمست قدماه رأس المنحدر المؤدي إلى القبر.
هذا ما كان يشغل القائد وزوجته في ذلك التاريخ، أما ابنه قسطنطين فكان بمعزل عن هذا كله، فإن وفاة أمه التي كان يحبها حبا شديدا تركت في نفسه أثرا من الحزن لا يبلى، وملأت فضاء حياته هما ونكدا، وكان يجد بعض العزاء عن ذلك الهم الذي نزل به في حنان أبيه عليه وعنايته به، حتى تزوج من تلك المرأة اليونانية وأسلم إليها نفسه وقلبه، ففقد بفقد عطف أبيه عليه وحنان أمه كل أمل له في الحياة، وأصبح يشعر في نفسه بذلة اليتم التي يشعر بها أولئك المساكين المنقطعون الذين لا يجدون بين أيديهم قلوبا راحمة، ولا أفئدة عاطفة!
فكان يخاطر بنفسه في المعارك التي يحضرها مخاطرة اليائس المستقتل، راجيا أن يريحه الموت من هموم نفسه وآلامها، فزج بنفسه ذات يوم في معركة كبرى استبسل فيها استبسالا عظيما، واستقتل معه جنده يطلبون الموت حيث يطلبه، فلم يبلغ أمنيته التي يتمناها، ولكنه انتصر في تلك المعركة انتصارا باهرا، وأنقذ من يد الترك شعب «تراجان» - وكان الملجأ العظيم لهم، والمركز الأكبر لحركاتهم وأعمالهم.
وإنه ليتأثر الجيش المنهزم ويشتد في أعقابه إذ لمح على البعد فارسا تركيا قابضا بيده على شعر فتاة مسكينة؛ يريد اقتسارها وإكراهها على الركوب معه، وهي تمتنع وتتأبى وتحاول الإفلات من يده، فيضربها بسوطه ضربا مؤلما وجيعا، فأزعجه هذا المنظر وآلمه، فركض جواده حتى أدرك ذلك الفارس فضربه على هامته بسيفه ضربة قضت عليه، فركعت الفتاة بين يديه ضارعة تسأله أن ينقذها من شقائها ويقودها معه إلى حيث يشاء، فرثى لحالها وأحزنه منظرها دون أن يعلم من أمرها شيئا، فأردفها خلفه وركض بها حتى بلغ موضع الخيام، فتركها بين الأسرى، وعاد من تلك الموقعة ظافرا منصورا يهنئه الشعب ويهتف له في كل مكان يمر به، حتى وصل إلى القلعة الكبرى، فدخل على أبيه وألقى بين يديه الأعلام التي غنمها في المعركة، فأمر برانكومير بقتل الأسرى، وكان ذلك شأنه فيهم كلما قدموا إليه، حتى جاء دور الفتاة، فجثت بين يديه ومدت إليه يدها مستغيثة تطلب العفو وتقول له: إنها فتاة نورية مسكينة لا شأن لها في الحرب ولا علاقة لها بأهله، وإن أمها باعتها منذ عامين من جندي تركي أساء عشرتها وعذبها عذابا أليما، حتى قيض الله لها هذا الفتى الكريم فاستنقذها من يده. وأشارت إلى قسطنطين.
فركع قسطنطين بجانبها وسأل أباه العفو عنها وقال له: إنني قد أنقذت حياتها بالأمس، فأنقذ أنت حياتها اليوم واجعلها حصتي الوحيدة من الغنيمة، وأعدك أني لا أطلب غنيمة سواها. فأحفظ ذلك قلب الأميرة بازيليد زوج أبيه، وكانت حاضرة تسمع حديثه، فنظرت إليه نظرة الازدراء والاحتقار - وكان هذا شأنها معه كلما التقت به - وأنشأت تنعي عليه اهتمامه بشأن فتاة نورية راقصة طريدة غابات وفلوات، وربيبة حانات ومعسكرات، وقالت له: لقد كان جديرا بك وأنت ذلك الجندي الشريف سليل ذلك القائد العظيم، والأمير الجليل، أن تلقي بمثلها إلى حارس من حراس بابك، أو جندي من جنودك يتلهى بها كما يتلهى الكلب بالعظمة المطروحة تحت أرجله، بدلا من أن تصل حياتك الشريفة الطاهرة بحياتها الدنيئة الساقطة!
فثارت ثورة الغضب في نفسه، وأضغنه عليها هذا الرياء الكاذب، والشرف المتكلف، وكان يعلم من شئون نفسها وخبايا قلبها ما لا تظن أنه يعرف شيئا منه، فنظر إليها نظرة شزراء ملتهبة، وقال لها وهو يعلم أن ما سيقوله سيغضبها ويؤلمها ويملأ صدرها غصة وحنقا: إن الله لم يخلق الضعفاء والمساكين ليكونوا ترابا لنا تدوسه أقدامنا، وتطؤه نعالنا كلما وجدنا إلى ذلك سبيلا، ولم يمنحنا القوة والعزة لنتخذ منهما أسواط عذاب نمزق بها أجسامهم، ونستنزف بها دماءهم، وكل ذنوبهم عندنا أنهم أذلاء مستضعفون لا يملكون من القوة والعزة مثل ما نملك، ولا يذودون عن أنفسهم بمثل ما نذود، وأحسب أنهم لو كانوا أقوياء أو أعزاء مثلنا، أو أعز وأقوى منا؛ لخفناهم واتقينا جانبهم، ونظرنا إليهم بعين غير العين التي ننظر بها إليهم اليوم؛ لأن القوي الذي يتنمر على الضعفاء لا بد أن يكون جبانا ذليلا أمام الأقوياء.
إننا الآن في حرب مع عدو قاهر جبار ننقم منه جوره وظلمه واستضعافه إيانا، واستطالته علينا بقوته وكثرته، فجدير بنا ألا نفعل ما ننقمه منه ونأخذه به، عسى أن يرحمنا الله وينظر إلينا بعين عدله وإحسانه، وينتصف لضعفنا من قوته، وقلتنا من كثرته!
إنا لا نحمل هذه السيوف على عواتقنا لنقتل بها النساء والأطفال والضعفاء والعزل الذين لا سلاح لهم ولا قوة في أيديهم، بل لنقارع بها الأبطال والأكفاء في ميادين الحروب ومواقف النزال.
إني لا أعرف شرفا غير شرف النفس، ولا نسبا غير نسب الفضيلة، وإن هذه البائسة المسكينة التي تحتقرونها وتزدرونها لم تصنع ذنبها بيدها، ولا سعت إليه بقدمها، بل هكذا قدر لها أن تنبت في هذا المنبت القذر الوبيء، فوبئت وقذرت، وليس في استطاعتها أن تعود إلى العدم مرة أخرى لتخلق نفسها خلقا جديدا في جو غير هذا الجو، وتربة غير هذه التربة، فما هو ذنبها؟ وما هي جريمتها؟ وأي حيلة لها في هذا المصير الذي ساقها القدر إليه؟
Unknown page