إنني لم أقصد بهذه اللمحة التحليلية السريعة أن ألقي شيئا من الظلال على فكرة المساواة بين الناس، بل أردت أن أوضح كيف أن ما يقبله القارئ العادي على علاته، يقف منه المثقف من الصفوة وقفة تتطلب مزيدا من الدقة في وضع الضوابط التي تضبط المعنى المقصود، وأحب هنا أن أوجه الأنظار إلى حقيقة هامة، هي أن الطغاة إنما يستندون في طغيانهم على الألفاظ التي من قبيل: الحرية، المساواة، العدالة، الديمقراطية، يلقونها في الجماهير، وهم يعلمون أن أحدا من تلك الجماهير لن يقف مع نفسه أو من غيره لحظة ليسأل عن تلك المعاني في دقة تحديدها، ليعلم بناء على ذلك إن كان ما يعطيه له الطاغية فعلا مطابقا لتلك المعاني، أو كان مجرد أسماء قذف بها في الهواء كيفما اتفق. وسؤالنا الآن هو هذا: إذا كانت هذه المعاني وأمثالها في حاجة إلى من يحللها ويوضحها ليكون مع الناس معيار التفرقة بين الصواب منها والخطأ؛ فمن الذي يضطلع بهذا التحليل والتوضيح؟ إنهم صفوة المثقفين - الكاتبون منهم والقارئون - ومنهم تتسلل المعاني قطرة قطرة، حتى تصل إلى جمهور الناس فتحركهم إلى التغيير المنشود، إذا اقتضاهم الأمر أن يغيروا من حياتهم شيئا، وعلى هذه الصورة تحدث ثورات الشعوب.
وهنالك من ضروب الإنتاج الفكري والفني والأدبي ما قد يخيل إلى الرائي أنه في مستطاع الجماهير، برغم كونه إنتاجا أبدعته الصفوة المثقفة كالموسيقى والشعر والرواية والمسرحية والتصوير مما يغري السائل أن يسأل كل منتج لفكر أو فن أو أدب: لماذا لا تجعل نفسك مفهوما للناس كهؤلاء؟ والذي يفوت السائل، هو أن القارئ العادي يتعذر عليه فهم الرواية والمسرحية ومعزوفة الموسيقى واللوحة الفنية بغير ناقد يقوم له بعملية التحليل واستخراج المضمونات الكامنة في العمل الأدبي أو الفني، وإذا لم تصل تلك المضمونات الكامنة إلى عقل المتلقي وقلبه، لما وجد ما يحفزه على تغيير أو ثورة.
وكل منا ميسر لما خلق له، فمنا من خلق ليحلق في علياء السماء تارة، وليغوص إلى غور الأعماق طورا، محللا ومعللا وباحثا وكاشفا، ومنا من خلق ليسبح في تيار الحياة كما هي واقعة، لا يجاوز تفصيلاتها ومشكلاتها ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم، وبين أولئك وهؤلاء من القنوات والدهاليز، ما يربطهما معا وجهين لحياة واحدة.
ندوة في خطاب
جاءني خطاب مثقل بالأسئلة، وكأنه قد شارك في كتابته مجموعة كبرى من السائلين، لكنني حين قرأت ما قدم به كاتبه نفسه، أحسست بأن الإجابة عن أسئلته واجبة؛ لأنه طالب علم والتعليم مهنتي ومهمتي، فهو يقدم نفسه بقوله: «أنا شاب أبلغ من العمر تسعة وعشرين عاما، لم تسعفني ظروفي الخاصة في إتمام مرحلة الدراسة الثانوية، ولكنني رغم ذلك أهوى القراءة وأحبها ... وهي عندي أحب إلي من كل ما عداها في هذه الحياة، وحبي للقراءة، وهوايتي لها، نابعان من اقتناعي بأثرها العميق في تكوين الشخصية وتقويم السلوك، ولو لم يكن للقراءة هذا الأثر، لما كان هناك أمر بالقراءة في قول الله تعالى:
اقرأ باسم ربك الذي خلق ، والمشكلة التي تحظى بكل اهتمامي وتشغل كل فكري الآن هي أنني لا أعرف ماذا أقرأ؟ ولمن أقرأ؟ وكيف أقرأ؟ ولقد تفضلتم مشكورين بالإجابة على السؤالين الأخيرين من أسئلتي الثلاثة (في مقالكم المنشور بالأهرام بتاريخ 15 / 5 / 1983م)، أما سؤالي الأول، فما زلت أتطلع إلى الإجابة عليه، فهل أقرأ ما يتفق مع ميولي واهتماماتي؟ أو أن هنالك ما يجب علي قراءته بغض النظر عن تلك الميول والاهتمامات.»
وبعد هذه المقدمة خصص صاحب الخطاب طلبه، فكتب سبعة أسئلة، تقع موضوعاتها في ميادين مختلفة، راجيا أن أجيب له عنها، وسألبي رجاءه له ما أستطيع، لكنني أقول له: إن أسئلتك هذه هي التي تحدد لك ما تقرؤه، فابحث عن المصادر التي تحدثك عنها، تكن قد أجبت لنفسك على سؤالك السابق: ماذا أقرأ؟ وبعد، فها هي ذي أسئلته السبعة، سؤالا سؤالا، والجواب الموجز عن كل منها. يقول في سؤاله الأول: «هاجم بعض علماء المسلمين القدامى، كالغزالي، الفلسفة والفلاسفة، واتهم علماء آخرون الفلاسفة بالزندقة والإلحاد، فأرجو التوضيح: هل هناك تناقض بين الدين والفلسفة؟ وما هي أوجه الاتفاق وأوجه الاختلاف بينهما؟»
الجواب: لا، ليس هناك تناقض بين الدين والفلسفة، وبيان ذلك في إيجاز هو أن الفكر يكون فلسفيا، كلما أراد أن يرد فكرة معينة، أو علما معينا، أو نظما اجتماعية معينة، أن يردها إلى جذورها الأولى التي نبتت منها؛ مثال ذلك، أنه إذا كان «التاريخ» يصف الأحداث كما وقعت، بل وربما يرجع بتلك الأحداث إلى أسبابها المباشرة، فإن «فلسفة التاريخ» هي التي تحاول أن ترد الأحداث وأسبابها إلى ما يكمن وراءها من قوى دافعة، فإذا قال ابن خلدون في «المقدمة» المعروفة له ما معناه أن الحضارة الإنسانية تولد وتنمو وتشتد قوتها ثم تهرم وتشيخ وتذبل وتموت، كما هي الحال مع سائر الكائنات الحية؛ فذلك منه يعد فلسفة للتاريخ؛ مثال آخر: إذا كانت «اللغة» هي هذا الذي نتكلمه ونكتبه، ثم تجيء «علوم اللغة» كعلم النحو مثلا، وهو عبارة عن استخراج القواعد العامة التي على أساسها تتركب المركبات اللغوية، فإن «فلسفة اللغة» هي ما يغوص إلى أعمق من ذلك، لنرى ماذا في الإنسان وفطرته، مما يجعله ذا لغة؟ مثال ثالث: إذا كانت «الأخلاق» هي تلك المعايير التي يراعيها الإنسان في سلوكه، بحيث يجيء ذلك السلوك مما يعده الناس فضيلة، فإن «فلسفة الأخلاق» هي الغوص وراء تلك المعايير ذاتها لنرى كيف كان منشؤها، أو بعبارة أخرى: نسأل من الذي أمر الإنسان بأن يفعل هذا وبألا يفعل ذلك؟ وهنا قد تتعدد الإجابات، لكنها جميعا - على تعددها - تكون مذاهب مختلفة في «فلسفة الأخلاق»، وعلى ضوء هذه الأمثلة التي أوضحت لك بها العمل الفلسفي في بحثه عن الجذور الأولى في أي ميدان يختاره، أنتقل بك إلى الدين والفلسفة وهل بينهما تناقض، فبناء على ما قدمناه، إذا كانت الفلسفة قد اختارت لفاعليتها الفكرية ميدان «التاريخ» أو «اللغة» أو «الأخلاق» أو «الجمال» أو ما شئت من ميادين العلم والحياة، فعندئذ لا يكون لها مساس بالدين، وأما إذا اختارت ميدان الدين نفسه ليكون موضوعها، فمهمتها إنما هي أن تحلل مفاهيم ذلك الدين وعقائده، بالطريقة التي ذكرناها، إلى أن ينتهي بها التحليل إلى الكشف عن الجذور الكامنة وراء تلك المفاهيم والعقائد، وها هنا قد يوفق القائم بالتحليل توفيقا يضعه في أعلى مراتب المؤمنين بذلك الدين، وقد لا يوفق، فيصل إلى نتائج يعدها المؤمنون خارجة على روح دينهم.
الفلسفة أشبه شيء بعدسة مكبرة يستخدمها الفيلسوف ليرى ما هنالك في الميدان الفكري الذي يختاره لرؤيته، وبالطبع لا يكون ما بين العدسة والشيء المرئي بها «تناقضا» حتى إذا كانت لعيب في زجاجها قد أضلت صاحبها عن طريق الصواب، فالذي حدث في حالة كهذه هو خطأ في الرؤية وليس تناقضا.
ولقد ذكر السائل في سؤاله «الغزالي» في هجومه على الفلسفة والفلاسفة، وأود أن أقول هنا إن الغزالي حين أطلق على كتابه الذي هاجم به الفلاسفة اسم «تهافت الفلاسفة» فإنما كان يرمي إلى فيلسوف واحد بالذات، هو أرسطو كما يتمثل في فلسفة ابن سينا، وأما «الفلسفة» من حيث هي فلا أظنه قد شملها، وحتى لو زعم لنا أنه إنما هاجمها، فنحن لا نصدقه في زعمه هذا؛ لأن الطريقة التي هاجم بها فلسفة أرسطو في ذلك الكتاب، هي هي نفسها فلسفة تنهج نهج الفلسفة أينما ظهرت.
Unknown page