ولعلك بعد هذه الصورة الموجزة لتطور مناهج البحث العلمي، تستطيع أن تدرك بعض الأبعاد التي نقصد إليها، حين نقول إن إحدى الدعامتين الأساسيتين لعصرنا، هي علوم قامت على أجهزة وأدت إلى صناعة أجهزة. وننتقل الآن إلى الدعامة الخلقية، والتي قلنا إنها تركز على «المنفعة» الناجمة عن الفعل، بشرط أن يفهم من هذه الكلمة تلك المنفعة التي تعم فتخدم المصلحة العامة.
وكشأن الفلسفة في كل عصورها، تجيء دائما انعكاسا للمناخ الثقافي والحضاري السائد، جاءت فلسفة الأخلاق عند القوم، أصحاب حضارة العصر بعلومها الجديدة وتقنياتها، جاءت الفلسفة لتبلور روح عصرها، فقالت ما خلاصته: إن قيمة الفعل تقاس بنتائجه، لا بمصادره، أي إنها تقاس بغده لا بأمسه، وهنالك عاملان يعملان على تشكيل الناس تشكيلا يتسق مع هذه الوجهة للنظر، هما القانون من ناحية، والرأي العام من ناحية أخرى، فكلا هذين العاملين، بما يقدمانه من ضروب الثواب والعقاب، ينتهيان بالفرد من الناس إلى أن يدرك كم هو في حدود المستطاع أن تلتقي منفعة الفرد مع منفعة المجموع، إننا لا نطالب الأفراد بتضحية منافعهم من أجل أحد، بل نطالبهم بأن «يتفهموا» مصالحهم على وجهها الصحيح، وإذا هي فهمت على هذا الوجه الصحيح رأيتها متفقة آخر الأمر مع صالح المجموع، إذ ماذا يجدي كسب الملايين عن طريق الجريمة، أو نهب حقوق الآخرين، إذا كان من شأن ذلك أن ينهدم البناء الاجتماعي على رءوس ساكنيه، سواء منهم من كسب حراما ومن اغتصبت حقوقه ليتحقق ذلك الكسب الحرام لأصحابه؟ إنه يجب أن يكون مفهوما أن الأثرة لا تتناقض مع الإيثار، وأن رعاية الفرد لمصالح نفسه، قد تكون هي نفسها رعاية لمصالح الجميع، وإذا كان الأمر كذلك، وجب أن تتجه تربية النشء في اتجاه هذا الهدف.
وقد تسألني: أليس العصر كما يعيشه الناس في الغرب هو أكثر من هاتين الدعامتين اللتين ذكرتهما: دعامة العلوم وتقنياتها، ودعامة الأخلاق بالمعنى الذي يجعل قيمة الأفعال مرهونة بنتائجها لا بمصادرها؟ وأجيبك: نعم، هي أكثر جدا من هاتين الدعامتين، فهنالك فنون شتى من طراز جديد لم تعهده العصور السابقة، في الموسيقى، والتصوير، والشعر، والرواية، والمسرح، والعمارة، وهنالك نظم سياسية واجتماعية واقتصادية قد لا تكون استمرارا حرفيا لما كان قائما إبان القرن الماضي وما سبقه من قرون، لكن هذه الجوانب كلها - إذا أمعنت فيها النظر - وجدتها نتائج تلزم بالضرورة عن قيام العلوم وتقنياتها بصورتها الجديدة، وعن لفتة الأخلاق تلك اللفتة التي لا أقول إنها جديدة، وإنما هي لفتة قائمة في الحياة العملية إلى حد كبير، ولا يلزمنا تجاهها إلا أن نوجه إليها الأنظار.
إن تركيزنا على نتائج الأفعال، لا على مصادرها وأسانيدها، معناه أن نستوثق دائما، كلما قمنا بضرب من ضروب النشاط، أو حكمنا على مناشط الآخرين، من أن ذلك النشاط مؤد إلى تحقيق الأهداف، أهداف من؟ إنها - كما أسفلنا - أهداف صاحب الفعل بالنسبة لنفسه هو، ولكنه بحكم تربيته، سيجعل تلك الأهداف الشخصية مؤدية إلى تحقيق الأهداف القومية، ومن الذي يضع للقوم أهدافهم القريبة والبعيدة، وعلى أي أساس توضع تلك الأهداف؟ الجواب: يضعها الشعب بالرأي المباشر، أو بالرأي محمولا على ألسنة نوابه، وأما على أي أساس توضع، فها هنا تتبدى الفوارق بين شعب وشعب؛ إذ يعمل كل شعب على أن تكون أهداف حياته متفقة مع تراثه الذي هو قوام هويته وشخصيته.
وعند هذه النقطة لا بد لنا من القول إننا إذ أشرنا إلى دعائم العصر الجديد بثقافته وحضارته، لم نكن نعني أن نحاكي ما هناك محاكاة القردة - كما أسفلت القول - بل ينبغي علينا ألا ننسى مقوماتنا نحن، دون أن نتنكر للإطار العصري لا لشيء إلا لأنه عصري، والحق أن أمامنا في مجال الإضافة الشخصية مجالا واسعا، وذلك أن حضارة العصر وثقافته، كما هما قائمتان بالفعل في أوروبا وأمريكا، قد ثبت أنهما يطغيان على نفوس الأفراد، حتى ليكادان يطمسانها طمسا، ومن هنا أخذهم القلق والسأم وشعور الاغتراب؛ لكن من هنا أيضا نشأ عند القوم أنفسهم ما يحدث التوازن المفقود، وذلك باصطناع الفنون في اتجاهاتها الجديدة؛ لأنها بتلك الاتجاهات تبرز الاهتمام بالجانب الذاتي الصرف للفنان. وكذلك نشأت الفلسفة الوجودية، لتقر في أذهان الناس حق الفرد في اتخاذ القرار، ليكون بحق إنسانا حرا ومسئولا، فالفلسفة الوجودية بمعالجتها لبعض ما يترتب على سيادة العلوم وتقنياتها، هي في الوقت نفسه برهان على قيام تلك السيادة، التي هي أبرز معالم العصر، وفي هذا القول مني، رد على أولئك الذين يحتجون علي، كلما قلت عن فلسفة العصر إنها أساسا فلسفة تخدم العلوم، بقولهم: وهل نسيت الفلسفة الوجودية التي ليس لها شأن بالعلم؟ نعم هي هناك، وهي في ذاتها برهان سلبي على أنه عصر تسوده العلوم وملحقاتها.
وأخيرا قد أسمع صوتا يعاتب: أهكذا نحن كما وصفتنا، غرباء على العصر ومقوماته؟ أليس فينا العلماء أشكالا وألوانا، ومنهم من بلغ من العلم حدا لا ينكره إلا جاحد؟ جوابي هو: نعم وألف نعم لرجالنا النوابغ في مجالات العلم والفن جميعا، ولكن العبرة آخر الأمر إنما هي بالجمهور، بالرأي العام، بالمناخ السائد، بوجهة النظر العامة، فعلماؤنا النوابغ، ورجال الفن منا، على ارتفاع قدرهم، قد تراهم هم أنفسهم - خارج حدود علمهم وفنهم - مع عامة الجمهور في الروح ووجهة النظر، وها هنا تكمن المأساة.
نريد أن نقرأ الحياة الجديدة بأبجدية جديدة، قوامها روح العلم الجديد ومنهجه الجديد، ولن يكون لنا من عصرنا ذلك النصيب الذي يتناسب مع مجدنا ومكانتنا في التاريخ، إذا نحن قنعنا بالحفظ والتسميع والتطبيق لما يبدعه الآخرون، نريد أن «نسهم» في الإبداع الحضاري الجديد بسهم منظور ، وليس إسهاما أن ننقل عن القوم علومهم حتى ولو حفظناها حفظا عن ظهر قلب، وأن ننقل عنهم أجهزتهم وتقنياتهم، حتى لو بلغنا الغاية القصوى من مهارة تشغيلها، أو حتى مهارة محاكاتها ب «تجميع» للأجزاء نجريه على أرضنا؛ فإذا كانت الأبجدية التي ألفناها هي أبجدية الحروف والكلمات والنصوص والمحفوظات والمسموعات، فإن الأبجدية الجديدة قوامها أجهزة ومكنات وصناعات ومغامرات في كشف المجهول، وإذا كان أهل الغرب قد قصروا في المحافظة على «نفوس» الأفراد و«قلوبهم» فدورنا نحن - ارتكازا على تراثنا وعقائدنا - هو أن نعلمهم كيف يمكن المشاركة في مقومات العصر كلها، مع الحفاظ على إنسانية الإنسان.
نماء وانتماء
العلاقة اللفظية بين «نمى» و«انتمى» - حتى وإن لم تكن اللفظتان من أصل لغوي واحد - تغريني بأن أقيم رباطا سببيا وثيقا بين شعور الكائن الحي بالانتماء لبيئة معينة من جهة والعوامل التي ساعدته على النمو - من جهة أخرى - وبعبارة أخرى: أقول إن الكائن الحي إنما ينتمي - بمحض فطرته - إلى حيث يجد الظروف مواتية لنمائه؛ وإذا كان الأمر كذلك فليس انتماء المصري إلى مصر - مثلا - بحاجة منا إلى «وعظ» (كما نفعل الآن) بقدر ما هو بحاجة إلى أن نوفر للمصري عوامل النمو والازدهار في بلده، فينتمي هو بعد ذلك مدفوعا بفطرته.
ذلك أن انتماء الكائن الحي إلى بيئته أمر فرضته الحياة نفسها، ولا فضل لنا فيه؛ فلقد استطاع علماء البيئة أن يضبطوا الرابطة بين أنواع الكائنات الحية وبيئاتها ربطا تمكنوا به من أن يستدلوا أحد هذين الطرفين من الطرف الآخر، بمعنى أننا لو عرفنا تفصيلات البيئة كان في وسعنا أن نستدل منها تفصيلات الكائن الحي الذي يعيش فيها، وكذلك لو عرفنا تفصيلات الكائن الحي المعين كان في وسعنا أن نستدل منها في أية بيئة يحيا.
Unknown page