اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .
هذه أعلام الحرم التي قصدت إليها، ولم يسعدني الحظ بالذهاب إلى علمي أضاءة في طريق اليمن، وإنما قطعت من هذا الطريق ما بلغ بي إلى غار ثور.
أما علما نخلة في طريق الطائف فكانا في الطريق إليها، ولقد قصدتها وأقمت بها أياما كانت أيام نشاط وسعادة، لقيت فيها من أثر الرسول ما اطمأن له قلبي ورضيه تفكيري، ولقيت فيها من تاريخ العرب بعد الإسلام ما أثار ألمي وأحرج صدري، لولا رجاء يخالج نفسي أن تكون هذه البلاد في المستقبل خيرا مما كانت في الماضي بعد أن انتقلت منها عاصمة الإسلام.
الكتاب الثالث
الطائف وآثارها
طريق الطائف
بينا أنا بالتكية المصرية ظهر السبت الرابع عشر من مارس لقيت الحاج عبد الله فلبي - أو سينت جون فلبي كما تشاء - فبادلته الحديث في أمور بلاد العرب حاضرها وباديها، وأدى بنا الحديث إلى لغة القوم بمكة وبعد ما بينها وبين اللغة العربية الفصحى، وسألت الجوالة البريطاني: أيوجد في شبه الجزيرة عرب يتكلمون هذه اللغة الفصحى؟ قال فلبي: «إنما يوجد هؤلاء في الجبال وفي البادية، وأنت إذا ذهبت إلى شداد في طريقك إلى الطائف عثرت ثم على طلبتك»، ولما علم أنني ذهبت إلى عرفات وإلى وادي نعمان حيث تبدأ عين زبيدة قال: «إن بين شداد ووادي نعمان أمدا قريبا، فإذا بلغت بك السيارة شدادا على سفح جبل كر وجدت محلة بها قوم من الأعراب عندهم الدواب التي تصعد بك كرا وكراء، وتذهب بك إلى الطائف، وهناك تسمع العربية التي تتوق إلى سماعها.»
لم يعترض أحد من الحاضرين على هذا الكلام فملت إلى تصديقه، وكان لي بزيارة الطائف شغف، ففيها من أثر الرسول قبيل هجرته وفي أعقاب غزوة حنين ما يدعو إلى زيارتها، لكني تصورت ركوب الدواب في صعود الجبال، فذكرت يوما من سنة 1924 كنت فيه بلبنان وصعدت فيه إلى الأرز مع رفاق كثيرين، ولم تكن طريق الأرز قد عبدت للسيارات حين ذاك، فاكترينا الدواب من بلدة «بشري» وامتطينا لتصعد بنا في طريق فيه سعة ونظام، مع ذلك بقيت أذكر ذلك اليوم والصعود على الدواب فيه فتمتلئ نفسي من صعودها مخافة ورهبة، فهي تأبى إلا أن تسير على حافة الطريق المتصلة بالهاوية، حتى ليشعر الإنسان أنه موف في كل خطوة على حتفه، وعبثا يحاول الإنسان أن يلزمها السير في منتصف الطريق، فإنها لا تلبث أن تعود إلى حافتها وتلزمها، وما أغناني عن كر وكراء وصعود سفوحهما على الدواب إذا كان للطائف طريق غير هذا الطريق! أما ولها طريق تسلكه السيارة هو الطريق المعبد، وما دام مقصدي من زيارتها أن أسمع العربية في صفائها، فلأترك طريق شداد لمن شاء أن يسلكه وحسبي ما قرأته عنه في كتب الرحلات، فهو لا يغري بركوب المشقة المضنية لاجتيازه.
ولم يدر بخاطري أن الدواب ستصادفني حين تجوالي بجبال الطائف، وستجعلني أحمد للمقادير عدولي عن مشورة «فلبي» إلى طريق السيارة لتقطع الطريق ما بين مكة والطائف في بضع ساعات.
ولقد استشرت مضيفي أمين العاصمة في الذهاب إلى الطائف وسألته عن خير طريق إليها، وذكرت له ما أشار به فلبي، فقال: هذا رجل ألف البادية ومتاعبها، فما لك أنت وما ألفه؟! في وسعك أن تسلك الطريق الذي نسلكه كلنا حين نصعد من مكة لقضاء الصيف بالطائف، ثم ذكر لي أنه مخبر وزير المالية الشيخ عبد الله بن سليمان الحمدان بعزمي على السفر بعد ظهر يوم الإثنين 16 مارس، وفي الغد أخبرني أن وزير المالية سره عزمي على زيارة الطائف، وأنه سيضع تحت تصرفي عربة «بكسفورد» تكون جنيبا للسيارة التي خصصت لنقلي منذ نزلت مكة، وأنه سيختار من يصاحبني في هذه الرحلة ويكون دليلي فيها.
Unknown page