شكرت لجلالته هذه العواطف نحو مصر ومليكها، وشعرت بأنني استنفدت غير قليل من وقته، فقلت: لقد سعدت بما اتصل بين جلالتكم وبلاد العراق من حسن العلاقة، وسعدت كذلك بما كان من ترحيبكم بوساطة المسلمين بينكم وبين إمام اليمن، ويسعدني أن يتصل هذا العمل في توثيق أواصر المودة بين هذه البلاد العربية والإسلامية المتجاورة، وإني أستأذن جلالتكم في مغادرة مكة شاكرا، راجيا لكم ولرجال حكومتكم كل التوفيق.
وحسبت الرجل يتحرك فيأذن لي بالانصراف؛ لكني رأيته استدار قليلا إلى ناحيتي وتوجه إلي أكثر من ذي قبل وقال: اسمع يا أخي! إن هذا الكلام الذي تقوله حسن، وهذه البلاد العربية والإسلامية المتجاورة ترتبط منذ مئات السنين بروابط قوية إذا تعهدها من يعنيه أمرها ازدادت متانة وقوة، وليس أحب إلي من أن تتحد هذه البلاد كلها في أغراضها مع بقاء كل منها محتفظا بكيان سياسي له وحده الخيار في تغييره، لكنني أقول لك: إن الدعوة إلى هذه الوحدة لا يجوز الاعتماد فيها علينا معشر الملوك، ولا يجوز الاعتماد فيها على الحكومات؛ فنحن مرتبطون مع أسلافنا بماض له فينا أثر لا نستطيع الفكاك منه، ونحن مرتبطون كذلك باعتبارات سياسية لها عندنا وزنها، ثم إن للملوك مطامع تجعلهم يحيدون، حرصا على تحقيقها، عن الفكرة التي لا يضطر أمثالك أن يحيدوا عنها لمثل هذه الاعتبارات، والحكومات خاضعة للأحوال المحيطة بها، مضطرة لمجاراة ظروفها، ويوم علمت أن سعد زغلول قبل تولي الوزارة في مصر لم يخامرني ريب في أنه سيضطر إلى النزول على حكم الظروف في أمر الغرض الذي ندب نفسه كي يحققه لبلاده، فأما الرجال الذين يؤمنون بفكرة ويهبون لها حياتهم، لا يبتغون من ورائها حكما ولا سلطانا، وإنما يريدون لها أن تتحقق، فأكثر أمرهم أن يصلوا إلى غايتهم، وفكرة الإخاء الإسلامي فكرة سامية بلا ريب من غير حاجة إلى سند لها من وحدة سياسية تؤازرها، وإني لأرجو لك ولأمثالك ممن يدعون إليها التوفيق والنجاح.
واعتدل ابن السعود ووقف بقامته الطويلة ومد إلي يده الضخمة وصافحني بحرارة، ورجا لي الخير قائلا: اعتمد علي يا أخي واعلم أنني دائما أخوك. فشكرت له هذه العواطف وودعته راجيا أن أراه من بعد بالحجاز وبنجد حين أعود إلى هذه البلاد.
خرجت من عنده وهبطت الدرج يتقدمني حاجبه، وألفيت وزير المالية وأمين العاصمة بالطابق الأول، فلما رأياني ذكرا لي والغبطة بادية عليهما أنني قضيت مع الملك ساعة كاملة، وبادلني وزير المالية التحية، وعدت مع مضيفي أمين العاصمة إلى داره وأنا أفكر في هذا الملك البدوي وحديثه، وأذكر ما قاله لي أولئك الصحفيون الغربيون الذين أعجبوا بذكائه ومقدرته على كسب محدثه، وأذكر حديث أولئك الحجازيين الذين كانوا خصومه أول دخول النجديين مكة، والذين بلغت خصومتهم أن هجر أكثرهم بلاده، فذهب منهم إلى الهند من ذهب، وذهب إلى جاوة من ذهب، ثم عادوا بدعوة منه وأصبحوا اليوم في مقدمة العاملين مع رجال حكومته من أهل نجد.
من هؤلاء شاعره اليوم الأستاذ إبراهيم الغزاوي، فقد هجر هذا المكي الحجاز وذهب إلى الهند وأقام بها، واحتمل لفراق أهله وذويه أشد الألم، ثم لم يعد إلا بدعوة من ابن السعود وإلحاح من أهله أن يرجع إليهم ليرى بعينه أن الأحوال بالحجاز صارت إلى خير مما كانت عليه في كل عهد سلف، ومنهم الشيخ طاهر الدباغ الذي يتولى اليوم إدارة المعارف، والذي سافر مع الغزاوي إلى الهند وظل مقيما بها إلى ما بعد عودة الغزاوي منها، وغير هذين كثيرون كانوا كلهم يتمنون أن تكون حكومة الحجاز للحجازيين، وأن يكون ملك الحجاز رجلا من أهل الحجاز، لكنهم جميعا يقرون بأن أحوال الحجاز اليوم خير مما كانت في أي عهد عرفوه.
ولقد أقر هذا القول كثيرون من غير أهل الحجاز، ومنهم جماعة من بني وطننا المصريين، فقد تحدثت إليهم وسألتهم فيما يشكو بعض شبان الحجاز منه من إنفاق أموال الدولة في أمور ليست جليلة الخطر في حياة الدولة، ومن إسناد أعمالها إلى غير أبنائها، فقيل لي: إن كثيرا من الأمور في حاجة إلى الإصلاح هنا، ومن المستطاع أن توزع ميزانية الدولة على نحو أكثر فائدة وجدوى مما يحدث اليوم، فأما ما لا مرية فيه فهو أن الحجاز لم يتمتع منذ مئات السنين بما يتمتع به اليوم من أمن، وأن الأخلاق العامة في المدن أرقى كثيرا مما كانت، وأن ما ينفق في التعليم وما إليه من مرافق الإصلاح أكثر مما كان ينفق في العهود السالفة جميعا، قال لي طبيب مصري أقام بمكة سنوات طويلة: «إنني لم أر فيما رأيت أو سمعت عهدا كهذا العهد بالنسبة للحجاز، وحسبي أن أذكر لك أن أم القرى هذه كانت مثلا في الاستهتار الخلقي قبل حكم النجديين، حتى لقد كان الرجل لا يأبى أن يسير وفي صحبته غلام يعرف الكل صلته به، وأن كل شيء فيها كان مباحا في رأي أهلها؛ لأن الحج إليها مصدر المغفرة، أما اليوم فلا يقع شيء من ذلك في العلن، وما يتصل أمره بأولي الشأن مما يقع خفية يعافه الناس فلا يجد مشجعا عليه، ولو أن الحكومة وجدت أموالا أكثر مما تجد، ورجالا أقدر وأكثر كفاية ممن عندها اليوم، لاستطاعت أن تقوم بأضعاف ما قامت به من إصلاح.»
ولقد أبدى مثل ملاحظة الطبيب المصري بعض رجال الحكومة العربية السعودية حين ذكروا أن ابن السعود قد شغل منذ فتح الحجاز بحروب خارجية، وثورات داخلية استنفدت الكثير من جهده ومن مال الدولة، ولولا ذلك لكان الإصلاح أشمل وأوضح. ويرجع بعض الثورات إلى أن قوما من رءوس العشائر الذين أخلصوا للدعوة الوهابية ما أخلص ابن السعود، كانوا يبالغون في إخلاصهم، حتى ليعتبرون غيرهم من المسلمين كفارا ومشركين؛ لذلك لم يرضهم أن يتصالح ابن السعود مع غيره من المسلمين على المذهب، أو يتهاون فيما يرون التهاون فيه إقرارا للكفر، ومن ثم لم يستطع ابن السعود أن يوجه من الجهود إلى الإصلاح غاية ما يرجو؛ لأن الاستقرار الواجب للقيام بالإصلاح ما يزال معرضا لهزات الثورات، والحروب تستنفد من أموال الدولة أكثرها.
أما عن الرجال وكفايتهم فلابن السعود فيهم رأي لم يضن علي به أثناء هذا الحديث الذي رويته، قال: لقد فكرت في الاستعانة برجال من المشهود لهم بالقدرة والكفاية من أهل البلاد الإسلامية المختلفة، لكنني قدرت أن يكون لهؤلاء الرجال من المطالب في الإصلاح ما قد تنوء به موارد هذه البلاد، فإن أن أجبتهم إلى إصلاح لا أشك في فائدته اضطررت إلى اقتضاء أموال لا يهون على الناس دفعها فتعرضت لامتعاضهم، وإن أنا لم أجبهم إلى ما يطلبون من هذا الإصلاح خلقت لنفسي منهم خصوما، وما أشد حاجتي إليهم أعوانا ومؤازرين! لذلك أكتفي بما تطيقه موارد البلاد وما يطيقه أهلها من تدرج بطيء، وقديما قالوا: «في الأناة السلامة.»
لست أريد في ختام هذا الفصل أن أحكم لابن السعود أو عليه، وحسبي ما قصصت من هذا الحديث الذي رويته عنه، وهذه الأنباء التي يقصها الناس عن آثار حكمه، وإنما أضيف إلى ما سبق أن الرجل خرج بنجد من عزلة كانت فيها بعيدة عن العالم، وأتاح لهؤلاء البدو أن يتصلوا من طريق المخترعات الحديثة بعالمنا السريع التغير والتطور، فهذا النجدي الذي كان لا يعرف غير بعيره أو جواده من عشر سنوات مضت قد ألف السيارة والطيارة والإذاعة اللاسلكية، وأدرك أنها من عمل الإنسان، وكان يحسبها من قبل من عمل الشيطان، وهو اليوم يفيد من مزاياها ما يقربه من العصر وأهله وما يعده لتطور سريع لعلنا نراه بأعيننا قريبا.
روى بعضهم حديثا لطبيب أوروبي يقيم بالأحساء أو بالكويت يدعى الدكتور «ديم» قال في أثنائه: «لقد غزا أهل نجد الحجاز بقوة سواعدهم وثابت يقينهم، ولم يجد الأعرابي القليل الحاجات والمطامع مشقة في الانتصار على ابن الحجاز الذي ألف رخاء العيش وطمأنينته، لكن أهل الحجاز غزوا نجدا في حياة أهلها وفي عاداتهم غزوا أعمق أثرا، فهذه الصمادة الحجازية البيضاء النظيفة قد بدأت تحل عند النجديين محل صماداتهم ذات المربعات الحمراء، وأهل نجد يشربون الشاي اليوم أكثر مما يشربه أهل الحجاز، وكانوا قبل الغزو لا يعرفونه ولا يعرفون القهوة، ومن طريق العيش ورخائه بدأت أخلاق أهل نجد تعرف الهوادة والتسامح، وكانت من قبل متعصبة لا يطيق أحدهم أن يضع يده في يد من لا يدين بمذهبه ولا يعتقد عقيدته.»
Unknown page