وأقمنا زمنا نرجو أن ينقطع المطر، بعد أن زال ما أثارته الريح من غبار ونحن في مثل ما كنا فيه من رضا النفس وضحك السن، فلما هدأ هتنه ثم انقطع عاد الناس إلى خيامهم المطوية، فنشروها وضربوا منها ما يكفيهم السويعات الباقية على انحدارهم إلى المزدلفة ثم إلى منى، ودلفت إلى خيمتي واستلقيت على بساطها، وبقيت هنيهة مستجما أمد بصري تارة من خصاص بابها إلى ضوء القمر المنبسط على الرمال، وأغمض أجفاني طورا فأسعد بالنسيم الرقيق العذب الذي خلف العاصفة، فأنعش نفوسنا وزادنا طمأنينة ورضا، ثم عدت أفكر فيما كنا فيه وفي رضانا عنه واغتباطنا به، ولو كنا في غير هذه الحال لثار سخطنا عليه، واشتد برمنا به، ولفررنا من ثورة الطبيعة مولين الأدبار لا نعقب، وابتسمت لهذه الموازنة بين حالين نفسيتين ما أبعد البون بينهما! ثم سألت نفسي: ما سبب تباينهما؟ وأيهما أدنى إلى الحكمة وإلى موجب العقل؟
وسبب تباينهما بدهي واضح؛ فنحن اليوم في تجردنا من الحياة وزينتها وفي توجهنا إلى الله تسمو أرواحنا عن أن نأسى لشيء من أمره، والطبيعة وظاهراتها جميعا بعض أمره، وماذا بين ثورتها وصفوها، وبين قطوبها وابتسامها؟ وما لنا لا نستمتع بثورتها وقطوبها استمتاعنا بصفوها وابتسامها، إنا لنستمتع بالليل مثلما نستمتع بالنهار، وهما نقيضان فيما يبدو لنا ، وليس لنا اليوم ونحن في إحرامنا ما نخافه من ثورة الطبيعة، فلن تحول هذه الثورة دون مصلحة من مصالحنا، ونحن لا نفكر فيها، ولن يصيبنا منها أذى؛ لأن حياتنا اليوم روحية سامية فوق المادة واعتباراتها، ولو أننا سمونا أبدا بالروح فوق المادة لما ابتأسنا لشيء، ولكنا أبدا من الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، إنما نبتئس ونضيق ذرعا بثورة الطبيعة حين تخضع أرواحنا لمظاهر الحياة التي تتأثر بهذه الثورة، وحين نجعل سعادتنا وشقاءنا ونعيمنا وبؤسنا رهنا بهذه الظواهر المحيطة بنا غير مستمدة من دخيلة نفوسنا وأعماق أرواحنا، فنحن نخشى المطر؛ لأن ملابسنا تبتل منه فيفسد ابتلالها هندامنا؛ ولأننا نخاف أن يتسرب من ابتلالها إلينا ما يسوء أثره في صحتنا، ولو أن ملبسنا كان في مثل بساطة الإحرام لما خشينا على هندامنا ولا على صحتنا، ونحن نخاف الزوابع أن تحول بيننا وبين مواعيد ضربناها لقضاء مصالحنا، ولو لم نكن أسرى هذه المصالح إلى حد الخوف عليها دون الخوف من الموت لوجدنا في ثورة الطبيعة متاعا نفسيا يعدل هذه المنافع أو يزيد عليها.
والحق أن الناس إنما يشقون بالحياة حين يذلون لمادتها بدل السمو بروحهم عليها، ولو أنهم عالجوا هذا السمو وأدركوه لآمنوا بالمبادئ الإنسانية العليا، وامتدت عدوى الإيمان منهم إلى غيرهم، ولسمت الإنسانية بذلك إلى مقام غير مقامها الوضيع الحاضر.
فأما موجب العقل والحكمة في الحالين فأشد من سبب تباينهما وضوحا، ألسنا جميعا نبتغي السعادة ونطمع في بلوغ درجاتها؟ ولا سعادة في الخضوع لغير ما توجبه الروح الفاضلة، والإيمان بالمادة خضوع، فأما الإيمان بالروح فسلطان، ولو أننا آمنا بالروح وازدرينا المادة لعنت لنا المادة وأقبلت علينا تلتمس رضانا طائعة صاغرة، فأما ما خضعنا للمادة عن إيمان بها، فنحن البائسون الأذلاء بحكمها، يقتلنا الطمع فيها ونحن نحسب جهلا أننا نحيا به.
وأرخى الليل سدوله، وظللت في تفكيري حتى نبهني الأذان للعشاء منه، فصلينا وتناولنا طعامنا وأخذنا أهبتنا للإفاضة من عرفات إلى المشعر الحرام ... وطال بنا الحديث والناس من حولنا يفيضون؛ فقد كان أصحابي يؤثرون مذهب مالك من أن المقام بالمزدلفة وذكر الله عند المشعر الحرام يكفي فيه مقدار حط الرحال، على أن يصل الإنسان إلى المشعر قبل أن ينتصف الليل، وتناول حديث أصحابي الحج ومناسكه وحكمة هذه المناسك، وأصحابي كما قدمت مكيون يحجون في كل عام، ولعل أكثرهم يعتمرون في كل عام غير مرة، وهم لذلك مطمئنون إلى مغفرة الله لهم، جريئون بذلك على تناول الحديث في الأمور المقدسة ومناقشتها بحرية قد تصل بهم إلى ما يعتبره غيرهم إثما وتجديفا، قال أحدهم: إنما الحج ومناسكه أمور تعبدية تغيب عنا حكمتها ولا سبيل للعقل إلى فهمها، والمسلمون يتمونها؛ لأنها فرض فرضه الله عليهم، فما عرفات وما المشعر وما الجمرات إلا أماكن كغيرها جعلها الله للمسلمين مناسك لحكمة لا يعلمها إلا هو، ويجب أن نؤمن بها وإن لم نفهم شيئا عن حقيقتها وسرها.
وقال آخر: بل الحج وسيلة تهوي بها أفئدة من الناس إلى وادينا الذي لا زرع فيه، تلك حكمة الله، وآية ذلك ما جعل على من عجز عن أدائه أيا من مناسك الحج من فدية الدم ليطعم الفقراء مما رزق الله الناس من بهيمة الأنعام، وقال ثالث: ليس هذا كل حكمة الحج؛ وإنما حكمته الأولى اجتماع المسلمين وتعارفهم وتعاونهم؛ ليشهدوا منافع لهم وليذكروا اسم الله، ومن يلبي دعوة التعارف والتعاون جدير بأن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه؛ لأنه آثر أخوة المؤمنين على نفسه وطمأنينتها، فاحتمل مشقة المجيء إلى بيت الله يلقاهم عنده، وعاد الأول إلى الحديث فقال: هذه أقوال تسوغون بها أمر الله في الإسلام، فما مسوغه أيام كان حج البيت فرضا قبل الإسلام، ويوم لم يكن من أديان العرب دين نزل للناس كافة؛ ليكون في المجيء إلى بيت الله من تجشم المشقة ابتغاء الاجتماع بالمسلمين ما يساوي مغفرة الذنوب؟ ولم يكن يحج البيت قبل الإسلام إلا أهل جزيرة العرب، وهم ليسوا أكثر من أهل هذا الوادي يسارا، فلم يكن في هوي أفئدتهم إلى بنيه ذلك الخير الذي نرتجيه اليوم ممن يحجون إلينا.
عجبت لهذا الحديث ولم آخذ في شيء منه بنصيب، وكيف أشترك فيه وإن كثيرين ليحسبونه «هرطقة» يستعيذون بالله منها ويلعنون أصحابها، وينصرفون عن السماع لهم؟ ولست أخفي أنني دهشت لتناولهم إياه، لم تنههم عنه حرمة المكان ولم يردهم عنه إحرامهم لله وتلبيتهم نداءه، وكأنما نسوا قوله تعالى:
ولا جدال في الحج ، والتمست سبب جرأتهم هذه، فوجدت الجواب حاضرا؛ إنهم يصعدون إلى عرفات كل عام، وهم يغشونه في غير أشهر الحج، فلا يرون منه إلا السطح الأجرد لسلاسل الجبال القريبة منهم بمكة، ويرون هذا السطح صفصفا ليس يعمره إلا بعض البدو في أوبارهم، ولطول ما ترددوا عليه اختلطت صورته المادية بالمعنى الروحي السامي لفريضة الحج، وذلك شأنهم في إدراك المناسك بالمزدلفة وبمنى، وإذا اختلطت الصورة المادية لموضع ما بالمعنى الروحي لأية فكرة سامية تتصل به، طغت الصورة على المعنى، إلا أن يكون المؤمن به بالغا من الإيمان غايته، أو كان من المهذبين المثقفين الذين يستطيعون التفريق الدقيق بين مظاهر المادة الدائمة المور، المختلفة الأطوار، وبين الروح المتصل الخالد الذي لا تحده المادة، ولا يعرف حدودا للزمان ولا للمكان.
ولقد كان الكهنة الأقدمون في اليونان وفي مصر أشد الناس سخرا من إيمان المؤمنين بالأصنام، وإن لم ينل هؤلاء الكهنة من التهذيب حظا يطوع لهم إقناع الناس بوحدة الله، وبأن الروح من أمره، وبأنه سام فوق المادة غير محدود بحدودها، ونقص تهذيبهم وما يؤدي إليه هذا النقص من ضعف إيمانهم هو الذي كان يجعلهم يقصون على الناس ما يزعمونه معجزات الأصنام؛ ليفيدوا من أعطيات هؤلاء الناس ما ينفعهم في حياتهم المادية، ولو أن إخواني المكيين هؤلاء كانوا مع جماعة غير مثقفين لما تحدثوا حديثهم الذي قدمت؛ أو لنزعوا فيه - أغلب الظن - إلى ناحية أخرى، لكنهم أردوا أن يظهروا لي مبلغ حريتهم في التفكير لما يعلمونه من شدة حرصي على الحرية وإيماني بأنها السبيل إلى الإيمان الحق، ولعلهم أرادوا أن أشاركهم في حديثهم وأن أقص عليهم من رأيي ما لعله ينفعهم ، فلما رأوني ممسكا عن القول مكتفيا بالإنصات لهم، أثار أحدهم جدلا في مناسك الحج، فقال: لم يرد في القرآن عن الحج وفرضه غير قوله - تعالى:
ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ، والبيت هو الكعبة، فأين في غير سنة الرسول ما يفرض الصعود إلى عرفات والقيام بما سواه من مناسك الحج؟ ولقد ورد في القرآن من تفصيل فرائض الوضوء والصلاة والصوم ما لم يرد في مثله في الحج إلا ما جاء عن البيت والطواف به.
Unknown page