هذا ما وعت الذاكرة مما رأيت بمكة حين دخلتها أثناء الليل، وها أنا ذا الآن أنتقل من غرفة النوم إلى البهو وأعود من البهو إليها، وقد اتصلت بها دورة المياه فاصلة بينها وبين غرفة الطعام، لشد ما يثير هذا البهو وهذه الغرف في النفس صورة البناء في العهود العربية القديمة! ولشد ما يثير أثاثها معاني النعمة والترف في تلك العهود! فهذا البهو الفسيح تكاد مساحته تبلغ ستة أمتار في العرض وعشرة في الطول، تضيئه في النهار وتهويه طيلة اليوم نوافذ تمتد من أقصى جدار عرض البهو إلى أقصاه، وكذلك الأمر في غرفة النوم المحاذية له، وهما الآن يضاءان أثناء الليل كما تضاء الدار كلها بالكهرباء، تولدها «ماكينة» خاصة بالدار؛ لأن مكة لا تزال إلى اليوم محرومة من نور الكهرباء، ولا يضاء فيها على حساب الدولة إلا الحرم الشريف، وإضاءة الدار بالكهرباء لا ترجع إلى أيام بنيت؛ ولذلك يتدلى من سقف غرفها نجف فيه لعشرات الشموع منازل مختلفة الألوان، والسجاجيد التي تفرش أرض البهو وغرف النوم ثمينة قيمة، جميلة الرقم، كثيفة الخمل، وإحدى غرفتي النوم كبيرة تصلح لأن تكون بهوا عند الحاجة، والجدار المقابل لبابها نوافذ كله كجدار البهو الكبير، وقد أقيم إلى جانب هذا الجدار، كما أقيم على الجدار العمودي عليه، مصطبة متصلة فرشت بالمراتب المغطاة بأغطية موشاة بالقصب، ومتكآت مغطاة بوشي القصب كذلك، تريح الجالس عليها والمتكئ إليها غاية الراحة، وفي الجدار الرابع دولاب يبدو منه بابه المطعم بالسن تطعيما دقيقا كتطعيم سقف الغرفة، أما غرفة النوم الأخرى فقد أعدت للنوم ولا تصلح إلا له؛ وهي متصلة بهذه الغرفة التي تصلح لأن تكون بهوا، بل هي مدخلها، مفروشة كفرشها؛ وبها «بوريه» مطعم كله بالصدف المختلف النقوش والألوان، والذي تبهرك حقا دقته.
فأما غرفة الطعام فيقابل بابها باب الغرفة الأخيرة، وتفصل بينهما دورة مياه لا تزال على الطراز العتيق، يتلوها درج يهبط الإنسان على سلمتيه ليرقى مثلها قبل أن يدخل هذه الغرفة، وهي أكثر من البهو ومن غرف النوم بساطة في أثاثها؛ لأنه أدنى إلى طراز عشرين أو ثلاثين سنة مضت من عصرنا الحديث منه إلى أثاث العرب أيام ترفهم، مع اتساق بنائها مع بناء الغرف الأخرى من حيث النوافذ التي تتصل من أقصى الجدار إلى أقصاه، والسقف المطعم بالصدف أو المموه بما يشبهه، والمصطبة القائمة إلى جانب النوافذ.
كان النهار ضحى حين جاء المطوف يسألني عما أريد، وهبطنا المسجد الحرام لأرى منه في وضح النهار ما أخفاه الليل وما شغلني الطواف عنه، والمسجد الحرام يشبه صحن الأزهر من حيث إنه فناء مكشوف تحيط به من جوانبه الأربعة قباب قائمة على عمد كالقباب المحيطة بصحن الأزهر، وتنتهي إلى جدرانه، لكن فناء المسجد الحرام فسيح جدا، يزيد على بضع عشرات من ألوف الأمتار المربعة، وهو ليس مفروشا كله بالبلاط كصحن الأزهر، بل مقسم أقساما تتعاقب بعضها إثر بعض، بعضها مفروش بالبلاط، وبعضها مفروش بالحصباء، على تعبير أهل مكة، وفي وسط هذا الفناء الفسيح تقوم الكعبة بيت الله الحرام وقبلة المسلمين جميعا في صلواتهم ، ويتصل بالكعبة حجر إسماعيل، ويقوم على مقربة منها مقام إبراهيم، ومن حول الكعبة مبلغات أربع - ومكبريات أربع على تعبير المكيين - لكل مذهب من المذاهب الأربعة واحدة منها، وعلى مقربة من هذه المبلغات ومن الحجر والمقام والبيت، يقوم بناء فوق بئر زمزم، وقد شيدت هذه المباني القائمة وسط فناء المسجد من أحجار متينة صلبة جيء بها من الجبال المجاورة لمكة، كما جيء من هذه الجبال بالأحجار التي شيدت منها عمد المسجد وقبابه، وما وراء العمد والقباب من جدران ومبان يسمونها مدارس؛ لأنها كانت كذلك بالفعل يوم شيدت، لكن الكثير منها يتخذ اليوم مأوى لبعض الطوائف، ولا يتخذ أماكن للدراسة، وقباب المسجد وجدرانه بسيطة، وفيها مع ذلك فن يتفق مع هذه البساطة، أما أبواب المسجد المؤدية إلى الطرق المحيطة به فأقل من قبابه فنا وأكثر منها بساطة، خلا باب علي، وجدران المسجد من الخارج لا فن فيها، بل تزور عين رجل الفن عن بعض جوانبها ازورارا.
وخرجنا من المسجد إلى المسعى، وهو يقع على مقربة من باب الصفا، وكان المسعى إلى صدر الإسلام طريقا مستقيما ينقص طوله عن الميلين، ويصل بين ربوتي الصفا والمروة، وكان متصلا بما حوله من فسيح الصحراء، تطل عليه الجبال المحيطة بمكة؛ أما اليوم ومنذ بضع مئات من السنين قد أحيط بالمباني والعمارة التي طغت عليه، وقد أحيل كل من الربوتين إلى درج أقيمت حوله جدران تحجب بين الساعين وفسحة الجو وبهاء السماء، وقد بلغ من طغيان المباني أن اعوج المسعى اعوجاجا يحول دون رؤية الصفا من المروة أو المروة من الصفا، وتخترق المسعى طرق تسير فيها الإبل والدواب والعربات والسيارات، وقد كان هذا الطريق إلى سنوات مضت كله الرمال؛ أما الآن فقد رصف بالحجر رصفا غير منتظم.
عدت إلى الدار بعد هذه الزيارة القصيرة، فقابلني مضيفي يخبرني أن وزير المالية ينتظرني بداره قبيل الظهر، وأن السيارة ستذهب بي وإياه إلى هذا الموعد، وذهبنا نخترق الطرق إلى ظاهر مكة حتى بلغنا غايتنا ونزلنا عند باب الدار، وليس يبالغ من يسمي هذه الدار قصرا؛ فهي فسيحة وإن لم يكن لبنائها طراز ينسب إليه، فخيمة وإن لم يسعد الفن فخامتها بتأنق أو روعة، تخطينا بابها الضيق إلى درج يؤدي إلى ممر من ناحية، وإلى فضاء به زرع من ناحية أخرى، واستدرنا في الممر إلى حجرة تخطيناها إلى دهليز، فغرفة أخرى، ثم غرفة ثالثة هي التي كان وزير المالية ينتظرنا بها، وهي غرفته الخاصة، وأحسبني لو تركت لأعود وحدي إلى ظاهر الدار من خلال هذه الغرف والممرات لتعذر ذلك علي.
والشيخ عبد الله بن السليمان الحمدان رجل بدوي نجدي بكل معاني البدوية والنجدية، نحيف القوام معتدله، أسمر البشرة، حاد النظر، تلمح في عينيه ذكاء وغضبا ممتزجين، يدعو امتزاجهما في حالة سكونه ودعته إلى مهابته والتفكير فيما وراء نظرته؛ وهو إلى ذلك حلو الحديث رقيق النبرة مبتسم اللقيا، تبادلنا التحيات، ثم ذكرت له ما دار بخاطري منذ غادرت مصر أن تكون مكة مقرا لعصبة الأمم الإسلامية، كما أن «جنيف» مقر عصبة الأمم الأوروبية، ووافقني هو في الرأي على أن نمحصه بعد انتهاء فرائض الحج واشتغال الحكومة بها.
وبعد الحديث والقهوة تركت الدار وآثرت أن أقوم بجولة بالسيارة أجتلي بها صورة من بعض نواحي مكة، وما دمنا بجرول عند مدخل مكة من ناحية الشميسي - أو من ناحية الحديبية إن شئت - فلأذهب إلى ناحية غير هذه التي دخلت منها حين مجيئي أمس من جدة؛ ولأتبع في تجوالي هوى نفسي وإرشاد مضيفي، فأما هوى نفسي فقد كان إلى فندق مصر التابع لشركة مصر للملاحة البحرية، وهل تهوى النفس شيئا هواها لما له بالوطن اتصال؟! وأما مضيفي فذكر أن على مقربة من فندق مصر فندقا للحكومة الحجازية، وأن مدير هذا الفندق هو مواطني المصري الشيخ عبد السلام غالي.
وزرت فندق مصر لماما، ومررنا بفندق مكة فلم نجد مديره ولم نقف عنده، وفندق مصر دار عربية فخيمة المدخل، حاول مديره أن يدخل إلى دورات مياهه شيئا من النظام الحديث.
وعدنا إلى المنزل وفي نفسي بعد هذه الجولة صورة مبهمة من مكة، كل دلالتها أن مكة اليوم هي مكة منذ مئات السنين، لم يطرأ عليها تقدم إلا في منازل بعض الأفراد الذين آثرهم الله ببسطة في الرزق، وهو تقدم نسبي لا صلة بينه وبين تقدم فن العمارة الحديث.
وحال قرب المسجد من منزل مضيفي دون توغلي بمكة منذ اليوم الأول، كما حال دونه ما أكرمني به أهل مكة وزوارها من زياراتهم إياي حيث نزلت، وقد تبادلت مع هؤلاء وأولئك أحاديث شتى عن البلاد المقدسة كان لها أثر في تكوين فكرتي عن العلاقة التي يجب أن تصل بينها وبين العالم الإسلامي.
Unknown page