إلى آخر سورة الفتح؛ وفيها يقول الله - تعالى:
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا * ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما . ويقول - تعالى:
إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما * لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا * محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما .
وسمع المسلمون إلى كلام الله في سورة الفتح فاطمأنوا ورضوا، وذهب عن الغاضبين منهم الغضب، وعادوا إلى المدينة ينظرون اليوم الذي يعودون فيه إلى مكة العام المقبل.
لا عجب، وذلك ما حدث، أن يخشى عمر تقديس المسلمين شجرة الرضوان تقديسا يبلغ عبادتها وأن يأمر لذلك بقطعها، وما له لا يفعل وهو الذي قال وهو يقبل الحجر الأسود بالكعبة: «أنا أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقبلك ما قبلتك!» وهو الذي لم يرض أن تجمع أحاديث الرسول وسنته اكتفاء بكتاب الله، وهو الذي أراد أن يظل الإسلام لله مطهرا، مظهره الإيمان العقلي المبرأ من كل مظهر من مظاهر الوثنية.
وآن لنا أن نعود إلى السيارة في طريقنا إلى جدة، ولقد بلغناها والليل ساج والأماكن القليلة التي تضيئها الكهرباء هي وحدها المنيرة وسط الدجنة المنتشرة لا يهون منها ضوء مصابيح الطرقات إلا قليلا، ولقينا أصحابنا المصريون بجدة، ودعاني قنصل مصر لتناول طعام العشاء عنده مع جماعة أزمعوا ركوب البحر في غدهم إلى أرض الوطن، وأقمت لحظة عند صاحب الدعوة، وغادرته إلى منزل الشيخ عبد الله سليمان بجدة حيث تركت متاعي، وعرفت مكان نومي، ثم عدت إلى بني وطني وأنا مشوق أي شوق للقياهم، وتحدثنا وتناولنا طعام العشاء، ثم جلسنا نسمع الإذاعة من مصر ونلتمس في موسيقيها وفي أغاني المغنين من بنيها وبناتها النشوة والطرب، فالإذاعة محرم سماعها بمكة؛ لأن مذهب ابن عبد الوهاب يحرم الطرب، فلا أقل من أن يحرمه الوهابيون في الحرمين، أما جدة فمرفأ يباح للناس من كل الأديان أن ينزلوا به، فلا تثريب عليهم أن يسمعوا الإذاعة من مصر ومن باريس ومن لندن ومن حيث شاءوا، هذا تصور قد يبدو عجيبا لأولي المنطق، فالحرام حرام حيث كان، والحلال حلال حيث كان، لكن المنطق يجب أن يتسع لمناطق الشك، وأن يعتبرها حرما آمنا تتجاور فيه الحرمات، وجدة ومرافئ الحجاز كلها من مناطق الشك حيث تتجاور حرمات الشرق وحرمات الغرب، وحرمات الله وحرمات حضارة هذا الجيل، فليتجاور فيها طرب المذياع الذي يسمعه الناس جميعا مع الطرب المستور بين الجدران والطرب الحلال عند أهل نجد، وليتسامح أهل هذا الطرب وأهل ذاك، فالتسامح وحده سبيل اليسر في عيش الجماعة.
وفي بكرة الصباح أقلتنا السيارة وتبعها «البكس» فخرجنا من جدة في طريق المدينة، وسألت صاحبي: أين نلتقي بطريق القوافل الذاهبة من مكة؟ فقال: إنما نلتقي بها عند القضيمة بعد أن تتخطى القوافل وادي فاطمة فعسفان إليها، وسألت: أللمدينة طريق غير هذه التي نسلكها اليوم وتسلكها القوافل؟ فعلمت أن لها طرقا أربعا: هذه التي نسلكها وتسمى الطريق السلطاني، والطريق الفرعي، وطريق الغاير، والطريق الشرقي، وإنما غايتي من هذا السؤال أن أعرف الطريق التي سلكها الرسول في هجرته، وفي عمرته، وفي فتح مكة، قال صاحبي: ليس التحديد الدقيق يسيرا، فهذه الطرق تختلط بعضها ببعض كما تختلط طريق السيارة وطريق القوافل، ومن اليسير على من شاء أن يعدل عن أي الطريقين إلى الأخرى أثناء سيره، وسترى من أسماء الأماكن التي تمر بها ما تستطيع معه أن تعين ما مر به الرسول - عليه السلام - منها.
كانت السيارة تنطلق مسرعة فوق أرض رملية خطتها دروب من عجل السيارات التي تجري طول أشهر الحج فيها، وإلى يميننا امتدت الرمال إلى الأفق فما تقف دون النظر هضبة ولا قمة، وامتد البحر الأحمر عن يسارنا مطمئنا هادئ الموج يحول البعد عنه بيننا وبين صريف أمواجه، وحاذينا محلة قال صاحبي: إنها الكراع فيما يسمونه اليوم، وكراع الغميم على عهد الرسول، ها هنا إذن وقف فرسان مكة وعلى رأسهم خالد بن الوليد عام الحديبية، ومن هنا اتجه النبي على رأس أصحابه إلى طريق الحديبية اتقاء الالتقاء بخالد وجيشه حتى لا يقاتل المسلمون وهم محرمون بعمرة، لكنا لم نبلغ القضيمة بعد، أفكانت الطريق على عهد الرسول غير الطريق اليوم؟ أم أن خالدا وفرسانه أرادوا أن يحصروا محمدا وأصحابه بينهم وبين مكة؟ أغلب الظن أن تكون الطريق قد تغيرت إن صح أن هذا الكراع كراع الغميم، فقد نادى الرسول في أصحابه حين رأوا فرسان قريش: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟» وقد سلك المسلمون إلى الحديبية طريق ثنية المرار، فوجدوا في سلوكها جهدا ومشقة، هم إذن خرجوا من الطريق المألوفة لهم والتي لم تصبح طريق القوافل في يومنا الحاضر.
Unknown page