ولم أتقيد في تفكيري وتأملي أمام شيء مما رأيت بغير منطقي وعقيدتي الذاتية اللذين كونتهما الطريقة العلمية الحديثة، فأنا لا أسلم بالعقيدة الموروثة إذا لم يكن لها أساس غير ما وجدنا عليه آباءنا، ما لم أمتحنها وأمحصها، وما لم أصل من أمرها إلى الإيمان بأنها هي الحقيقة كما يسيغها عقلي ويطمئن إليها ضميري، وأنا لا أحسب الذين يدينون بعقيدة ما لغير شيء إلا أنهم وجدوا عليها آباءهم مؤمنين حقا، بل أرى واجبا على الإنسان لكرامته الإنسانية أن يحاول ما استطاع فهم ما يلقى إليه، اتصل ذلك بالعقيدة أو بالتشريع أو بالعلم والفن، فإن اهتدى إلى الحق فيه فذاك، وإلا فليلتمس الهدى عند أهل العلم وليطالبهم بإقناعه، والعالم الجدير باسم العالم هو من أقنع سامعه بالحقيقة التي اهتدى إليها عن طريق المجادلة بالتي هي أحسن، فلا إكراه في الدين، ولا يماري في الحقيقة متى تبين الرشد من الغي إلا من أضله هواه.
ولقد جعلت السير في إثر الرسول غرضي من يوم أتممت مناسك الحج، فقد كنت شديد التوق إلى هذا السير من سنوات، ومذ كنت أتابع الرسول خلال الكتب أبحث فيها سيرته، وكنت أحسب السبيل ميسرة، وأني سأجد عند كل موقف من مواقف الرسول أثرا يدل عليه ويشهد به، ولم يزعزع من ذلك في نفسي ما علمته من هدم الوهابيين القباب التي أقامها من حكموا الحجاز في العصور التي سبقتهم، فالوهابيون إنما استقروا فيه لعشر سنوات خلت، وهذا زمن لا يتيح للنسيان أن يجني على آثار خلدتها أربعة عشر قرنا متعاقبة، هذا إلى أن القباب ليست كل ما يمكن أن يقام من الآثار، وإذا كنا نحتفظ في مصر بآثار ناهضت الدهر خمسين قرنا متوالية؛ فما أحرى المقيمين ببلاد النبي العربي أن يحتفظوا بآثاره وهي أقرب من ذلك عهدا، وأبلغ دلالة، وأبقى على التاريخ ذكرا ، والوهابيون هم بعد مسلمون، إن أنكروا القباب فلا ينكروا ما سواها من دواعي الذكر والأسوة.
والحق أني لم أجد مشقة في تعرف الآثار التي هدم الوهابيون قبابها، فالأسف على ما صنعوا قد جعل الذين يخالفونهم في الرأي أشد ذكرا لها وحرصا على إشهاد الناس ما حل بها، ولقد شاركت هؤلاء في أسفهم من ناحية لا يفكر أحدهم فيها، فقد كان بين هذه القباب التي هدمت آثار بارعة في الفن، لم يكن يجمل بيد تقدر الفن أن تمتد إليها بسوء، لكني إنما وجدت المشقة في الاهتداء إلى آثار لها في تاريخ المسلمين الأولين أثر بالغ، ولا ترضى أمة تقدر تاريخها أن تذرها للنسيان يعبث بها ويجني عليها، من ذلك اختلاف الأقوال على موقع حنين حيث كانت الغزاة التي تركت في تاريخ الإسلام أثرا قل كمثله أثر، ومنه اختلافهم على موقع عكاظ سوق العرب جميعا في الجاهلية وفي صدر السلام، وإنما سوغ الجهل الذي خيم على بلاد العرب من عصر العباسيين هذه الجناية النكراء، كما سوغ أمرا لا يقل عنها نكرا، فقد أقيمت آثار لحوادث وقعت وليس في التاريخ ما يدل على أنها وقعت حيث تقوم هذه الآثار، وأقيمت آثار لحوادث لا يعرف التاريخ الحق من أمرها شيئا، وتحقيق ذلك كله وبيان قيمته العلمية أمر جدير بكل من يريد الحقيقة، وقد حاولت من ذلك ما استطعت، لكن هذا التحقيق يحتاج إلى أضعاف الزمن الذي قضيته بالحجاز، ويحتاج مع الزمن إلى بحوث ينقطع لها صاحبها ليقابل بين ما جاء في الكتب المختلفة؛ لعله يبلغ من المقابلة إلى ما تستقيم به النتيجة التي يتوخاها، وليس يخامرني ريب في أن هذا العمل لو قامت به بعثة جامعية لوجدت فيه من الفائدة ومن المتاع العلمي ما تهون معه كل مشقة.
وكان حديث الآثار الصحيحة التي وقفت عندها كله البلاغة في التعبير عما تدل عليه وتوحيه إلى النفس من آي الجلال والعظمة، فجبل حراء والغار في قمته، ومسجد عداس بالطائف، ومسجد العقبة وجمرتها، وجبل ثور ومختبأ رسول الله وأبي بكر بالغار فيه، والطريق الذي سلكه النبي إلى المدينة حين هجرته من مكة، ومسجد قباء، والمسجد النبوي والآثار الكثيرة المختلفة بالمدينة، وميدان بدر حيث وقعت الغزوة الأولى بين قريش والمسلمين، هذه المواقع وما إليها كانت تثير أمام ذهني ذكريات مليئة بالحياة كأنما حدثت بالأمس، وكانت توحي إلي معاني الإكبار والإعظام وتزيدني إجلالا لهذه الأماكن في صمتها العميق لم يغير منه توالي القرون، ولقد كان ما أوحته هذه الأماكن مما حاولت تصويره في هذا الكتاب أبلغ من كل ما استطاع قلمي أن يصفه أضعافا مضاعفة.
ولقد كشفت لي هذه الآثار عن صورة لبلاد العرب حين بعث الله نبيه بالهدى ودين الحق تختلف أشد الاختلاف عن صورتها في الوقت الحاضر، وتختلف عما وقر في نفس الكثيرين من صورتها في آخر أيام الجاهلية، كانت بلاد العرب يومئذ ذات حضارة لا شيء يشبهها في شبه الجزيرة اليوم، كانت مكة وبعض بلاد الحجاز مدنا تجارية عامرة مزدهرة، وكانت الطائف ذات الخصب موضع عناية من أهلها بحسن استغلال خصبها وبصيانة سلامتها، وكان أهل تهامة وأهل الحجاز أولي ثقافة وحكمة وأدب، وكان العرب على اتصال بالعالم ينقلون تجارته بين الشرق والغرب مما زادهم علما وزادهم براعة في التجارة وأساليبها، لكنهم كانوا يحيون حياة سياسية أشبه بحياة اليونان القديمة وبحياة بعض بلاد الغرب، ومنها إنجلترا، منذ قرون قليلة، كانوا قبائل ومدائن تحتفظ كل منها بوحدتها وبسلطانها، وتدفع عن حياضها كل من يحاول الاعتداء على سيادتها أو على ثروتها، فلما بعث الله النبي العربي داعيا إلى التوحيد، ألفى في هذه القبائل قوة في الجدل وصلابة في الاستمساك بعقائدهم ونظمهم، فلما هدى الله الكثيرين من أهل يثرب إلى الإسلام، وهاجر النبي إليهم وانتصر بهم، وجمع كلمة العرب تحت لواء الدين الجديد، استطاعت هذه الأمة الفتية المستعدة بحضارتها للنهوض أن تثب إلى حيث وثبت، وأن تبث في العالم حضارة هذا الدين الذي اختارها الله لتكون وطنه الأول.
كشفت لي هذه الصورة عن جانب من السر الذي كنت ألتمسه، والذي كان خفيا عني حين كنت أتصور بلاد العرب كلها - كما يتصورها الكثيرون - واديا غير ذي زرع لا تصلح مقرا لحضارة يضيء نورها العالم، كان أهلها شديدي المحافظة على عقائدهم وعاداتهم وتقاليدهم، وكانوا ذوي بأس وقوة في هذه المحافظة، وقد كانت عقائدهم الوثنية تمسكهم دون الوثوب إلى دعوة العالم المفكك الأوصال يومئذ ليستظل بحضارة أجدر بالإنسانية مما كانت تدعو إليه بزنطية وفارس، فلما هدى الله العرب إلى الإسلام كانت تعاليم هذا الدين منارة الهدى للعالم، وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
الأسوة والمثل بأدبه وخلقه وقوته على الحياة لنشر هذه التعاليم، وإحياء الإنسانية بروحها السامي، وهذه الأسوة هي ما تحدث به آثاره في بلاد العرب حديثها البليغ الذي تهتز له النفس وتسمو به الروح إلى مراتبها العليا حيث تشرق الأرض بنور ربها، ويرى الإنسان فيها فضائل الكون مجتمعة.
والواقع أن ما توحيه آثار الرسول من هذه المعاني بالغ غاية القوة، وأنت تستطيع أن تجمع هذه المعاني في عبارة موجزة: تكريس الحياة لمثل أعلى يوجه الإنسان إلى جهوده فيبلغه أو يموت دونه مستشهدا في سبيله، وحسبك أن تقف عند كل واحدة من كلمات هذه العبارة لترى الجلال والقوة والسمو على الحياة متضافرة كلها إلى خير غاية، فالمثل الأعلى في الإسلام ما هو؟ رضا الله بالبر والتقوى، وحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، صور هذه المعاني النفسية صورة مادية، واجعل منها مثلك الأعلى الذي تكرس له جهود حياتك، هذا التصوير وحده عظيم شاق يقتضيك مجهودا جسيما، أنت تريد الغنى مثلا أعلى لك، فليكن؛ لكن يجب أن تبتغي به رضا الله، وأن تكون في تحصيله برا تقيا، وألا تعامل الناس في تحصيله إلا بما تحب أن يعاملك به من أراد منهم مثل غايتك، وذاك يرى جاه الحكم مثلا أعلى له، فليكن؛ لكنه يجب أن يبتغي بالحكم رضا الله، وأن يكون فيه برا تقيا لا يعامل غيره إلا بما يحب أن يعامله الغير به إذا ولي أمره، فإذا صور المرء مثله الأعلى وجب عليه أن يسعى إليه غير وان، ويوجه إليه كل جهوده، وأن يستهين في سبيله بكل تضحية وإن كانت بالحياة، ولا عليه إن أصابه مكروه ما دام رضا الله مبتغاه، فكان لذلك برا تقيا مؤمنا بالأخوة الإنسانية، محبا لإخوانه المؤمنين ما يحب لنفسه، راجيا لهم الخير، وأن يبلغ كل من مثله الأعلى ما يود هو أن يبلغه من المثل الذي جعله نصب عينيه وغرض حياته.
لكن الأمثال العليا تتفاوت تفاوتا عظيما، وأسمى الأمثال - لا ريب - ما بعث الله به نبيه هدى للناس ونورا، ولقد بلغ من إيمان العرب في الصدر الأول بهذا المثل أن جعله كل منهم غرض حياته، وأن أخضع له كل ما في الحياة من غرض دونه، وأن كان الاستشهاد في سبيله أملا يتمنى أن يجعله الله نصيبه، فهذا الذي اتخذ التجارة حرفة له في الحياة ووقف لها جهوده كان يجعل في تجارته حظا معلوما للسائل والمحروم، وكان يهب نفسه لله يوم يدعو الداعي إلى الجهاد في سبيله؛ ذلك لأن الدين الجديد علمهم أن الأمة يجب أن يكون لها، كما يجب أن يكون للفرد، مثل أعلى، وأن المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها أمة واحدة لكل منهم على الآخر ما للأخ على أخيه من حق، فيجب أن يكونوا يدا واحدة في سبيل الله يتحابون بنوره بينهم، ويبذلون في سبيله مهجهم وأرواحهم، يعلمون الناس بذلك أنه لا إله إلا هو، لا يغيب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وأنه - جل شأنه - برأ الناس ليتعاونوا على البر والتقوى حتى يبلغوا بالإنسانية كمالها، فإن بغت طائفة منهم فقد وجب عليهم جميعا أن يقاتلوا الباغي حتى يفيء إلى أمر الله.
Unknown page