لكننا نغير النظرة إلى الإنسان وسائر الكائنات، فنجعل «الفرد» خطا متصلا من حوادث، كل حادثة منها متصلة بغيرها بمجموعة من علاقات، وبهذا يكون الفرد تاريخا تتعاقب فيه الأحداث بكل ما يربطها بمحيطها من روابط، فيصبح الفرد «مجموعة» صغرى مندمجة في مجموعات أكبر، ولا تكون ثمة فردية إلا ويمكن ردها إلى «معية» (من كلمة «مع») بمعنى أنك لا تعرف فردا إلا إذا عرفت مصاحباته ومتعلقاته، أي أنك لا تعرف فردا إلا مرتبطا بماض وحاضر ومستقبل، مرتبطا بأسلاف أنسلوه وبأسرة تعايشه وتعاصره - والأمة أسرة كبيرة - مرتبطا بأهداف مقبلة يتعاون في تحقيقها مع سواه.
علم جديد قوامه ذرة لا تفهم إلا على صورة مركبة من أطراف كثيرة وما بينها من علاقات رابطة، وفلسفة جديدة تساير العلم الجديد، قوامها تذويب «الجوهر الفرد» إلى أحداث سلوكية، كل حدث منها لا يفهم إلا وهو جزء من مجال، مرتبط بموقف، فيه ناس آخرون وأشياء أخرى يتصل بها وتتصل به، واقتصاد جديد يتمشى مع العلم والفلسفة الجديدين، قوامه المشاركة في المصنع والمتجر والمزرعة، ومجتمع جديد ينبني على ذلك كله، ويكون أقرب في صورته إلى الكائن العضوي المرتبط الأجزاء والأعضاء، منه إلى كومة الغلال التي لا ترتبط فيه حبة بحبة أخرى إلا بالتجاور في المكان، وفردية جديدة تجعل الفرد جزءا من نسيج المجتمع، كاللفظة الواحدة لا يتم معناها إلا وهي في عبارة تشملها وتشمل غيرها في بناء محكم الروابط والصلات.
الفرد، والمواطن، والإنسان
أما أن العالم قوامه - آخر الأمر - أفراد، فذلك ما لست أشك فيه لحظة واحدة، بل إنه ليأخذني العجب كلما صادفت أحدا ممن يشكون فيه، حتى لتراني - عندئذ - أوقن بيني وبين نفسي، أننا لا بد متحدثان عن أمرين مختلفين، بلغتين مختلفتين، وإن ذهب بنا الظن الواهم أن موضوع الحديث واحد، وأن لغة التفاهم واحدة، فدفاتر المواليد وحدها شاهد حاسم بأننا - عند الدولة وعند الناس - محسوبون أفرادا، لكل فرد منا اسمه الخاص، وساعة ميلاده الخاصة، من والدين معلومين، وعلى كل فرد منا - بمفرده - تقع التبعة الخلقية أمام ضميره وأمام الله وأمام الناس، عما يقول وعما يفعل، كما تقع عليه التبعة الجنائية أمام القانون، وإن المجتمع ليكافئ من أبنائه الفرد المحسن من حيث هو فرد، ويعاقب الفرد المسيء من حيث هو فرد كذلك.
فإذا كان الأمر بهذا الوضوح كله، فكيف - إذن - يقع في الرأي اختلاف؟ أغلب ظني أن موضع الخلاف إنما هو في طريقة فهمنا لكلمة فرد، لا في طريقة سلوكنا الفعلي في مواقف الحياة العملية، وحسبك - لكي تعلم أن أصحاب الرأيين جميعا متفقون على سلوك واحد - أن تجد هؤلاء وأولئك معا يلجئون في نشر الرأي الذي يرونه، إلى الكتابة أو إلى الخطابة، أو إلى أية وسيلة أخرى من وسائل النشر، مما يدل على أن كليهما سواء، في الرغبة في الاتصال بالناس، ولو كانت «الفردية» معناها عند فريق منهما عزلة تفصل صاحبها عن المجتمع، لما لجأ إلى نشر رأيه في هذا المجتمع نفسه، وبنفسه الطريقة التي يلجأ إليها الفريق الآخر.
إن ثمة اختلافا جوهريا بين منطق الفكر القديم ومنطق الفكر الحديث، في تصورهما «للفرد» - وهو اختلاف لو ألقينا عليه الضوء، لأمكن أن تتقارب وجهتا النظر بين «الفرديين» وغير الفرديين، فقد كانت الفردية قديما تعني ذاتا غير منقسمة، كأنما هي كيان قائم بذاته، لا يعتمد في وجوده على سواه، حتى ذهب بعض الفلاسفة إلى أن هذه الفردية لا تتحقق ولا تكتمل إلا في الوجود كله مأخوذا على أنه وحدة واحدة، ولكن من الفلاسفة كذلك من كان يعدد الذوات المفردة دون أن يجد في هذا التعدد تناقضا، على أن هؤلاء وأولئك لتركيز اهتمامهم على النواة التي يمكن تصورها مستقلة بذاتها، لم يوجهوا إلا قليلا من اهتمامهم إلى «العلاقات» التي تربط الذوات بعضها ببعض، وإنه لمن الفوارق الرئيسية بين الفكر الحديث والفكر القديم، أن الفكر الحديث كاد يرد كل شيء وكل فرد إلى مجموعة من علاقات، على خلاف الفكر القديم الذي كان أميل إلى النظر إلى الشيء المعين أو إلى الفرد المعين وكأنه وحدة قائمة برأسها، خذ - مثلا - فكرة «الذرة» قديما وحديثا، فربما اتفق مفكر قديم (مثل: ديمقريطس) ومفكر حديث على أن العالم مركب من ذرات، لكن الاختلاف بينهما يبدأ حين تناقشهما في معنى «الذرة»، فعندئذ تجد التصور القديم هو أن الذرة الواحدة كيان مصمت مستقل قائم بذاته، هي «جوهر فرد» كما كان يقال، وأما التصور الجديد فهو - كما نعلم - يخلخل الذرة إلى كهارب سالبة وكهارب موجبة، أهم ما فيها «العلاقات» التي تربطها بعضها ببعض.
هكذا نجد الفكرة عن «الفردية» قد تغيرت، فبعد أن كانت تدل على وحدات مستقل بعضها عن بعض كيانا ووجودا، أصبحت تدل على «علاقات»، من مجموعها يتكون هذا الذي نسميه فردا، دون أن يصح القول بأن الفردية قد زالت وانمحت، إذ الذي تغير هو المعنى الذي نفهم به الكلمة، وعلى أساس المعنى الجديد، الذي نفهم به الفردية على أن قوامها علاقات، نجد أن «الأفراد» - أو إن شئت فقل «المفردات» - تتفاوت سعة وضيقا، فإسماعيل الطالب بكلية الآداب «فرد»، ثم كلية الآداب بكل طلابها «فرد»، ثم جامعة القاهرة بكل ما تضم من كليات مختلفة «فرد»، ثم القاهرة بكل ما تزخر به من الأشياء والأحياء «فرد»، وهكذا وهكذا تستطيع أن توسع من نطاق «الفرد» توسعة قد تنتهي إلى ضم الإنسانية كلها في حقيقة واحدة.
ولكي تفهم ما نعنيه بقولنا إن «الفرد» في التصور الحديث هو مجموعة علاقات، اختر من شئت من أفراد، وحاول أن توسع علمك به لتلم بحقيقته، تجد أنك - عندئذ - قد أصبحت أمام شبكة متشابكة الخيوط من علاقات، تمتد بك في كل اتجاه، فعلمك بهذا «الفرد » يزداد إذا علمت ابن من هو؟ ومن أفراد أسرته؟ وأين يسكن؟ وماذا يعمل؟ ... إلى آخر ما يتصل به من أشخاص ومن أمكنة ومن أشياء، إذا استطعت أن تصل في هذا كله إلى آخر.
إنها تفصيلات وتفصيلات لا أول لها ولا آخر، كل تفصيلة منها تنطوي على علاقة تربط «الفرد» بشيء معين أو بشخص معين، أو بنقطة معينة من مكان أو بلحظة معينة من زمان، ومن مجموع هذه التفصيلات يتكون «هذا الفرد»؛ لأن هذه التفصيلات هي تاريخ حياته، هي «سيرته» التي سارها خطوة خطوة، ويوما يوما، لكن مجموعة التفصيلات التي تؤلف سيرة حياة، هي مجموعة فريدة متفردة، يستحيل عمليا ونظريا، أن تتكرر مرتين في فردين على طول الزمان وامتداده وعرض المكان واتساعه.
ومن هنا كان «تفرد» الفرد الواحد هو بما لا يشاركه فيه فرد آخر من حيث مجموعه الكلي، ولكن من هنا كذلك كان ارتباط الفرد بسواه حتما وضرورة، إذ ما دامت حقيقة مجموعة «علاقات»، فلا بد أن تكون هنالك أطراف أخرى يتعلق بها، وهذه الأطراف الأخرى قد تكون أشياء - فتكون ما نسميه بالبيئة الطبيعية - وقد تكون أناسا من أهل وجيرة وأصدقاء وغير ذلك، ومن هؤلاء من هو حي، ومنهم من مات فأصبح جزءا من تاريخه - ومن هؤلاء وأولئك تتكون بيئته الاجتماعية، ثم تمتد البيئتان الطبيعية والاجتماعية إلى حدود معلومة فيكون الوطن، وإلى غير حدود فيكون العالم وأسرته الإنسانية بأسرها.
Unknown page