مسألة فيما إذا كان [في] العبد محبة بسم الله الرحمن الرحيم *** بسم الله الرحمن الرحيم فصل فيما إذا كان في العبد محبة لما هو خير وحق ومحمود [في] نفسه، فهو يفعله لما فيه من المحبة له، لا لله، ولا لغيره من الشركاء، مثل أن يحب الإحسان إلى ذوي الحاجات، ويحب العفو عن أهل الجنايات، ويحب العلم والمعرفة وإدراك الحقائق، ويحب الصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم، فإن هذا كثير غالب في الخلق في جاهليتهم وإسلامهم، في قوتي النفس العلمية والعملية، فإن أكثر طلاب العلم يطلبونه محبة، ولهذا قال أبو داود للإمام أحمد بن حنبل: طلبتَ هذا العلمَ - أو قال -: جمعته لله؟ فقال لله عزيز، ولكن حُبِّب إليَّ أمر ففعلته. وهذ حال أكثر النفوس، فإن الله خلق فيها محبة للمعرفة والعلم وإدراك الحقائق، وقد يخلق فيها محبة للصدق والعدل والوفاء بالعهد، ويخلق فيها محبة للإحسان والرحمة للناس، فهو يفعل هذه الأمور: لا يتقرب بها إلى أحد من الخلق، ولا يطلب مدح أحدٍ ولا خوفًا من ذمِّه، بل لأن هذه الإدراكات والحركات يتنعَّم بها الحيُّ ويلتذُّ بها، ويجد بها فرحًا وسرورًا، كما يلتذ بمجرد سماع الأصوات الحسنة، وبمجرد رؤية الأشياء البَهِجَة، وبمجرد الرائحة الطيبة.

1 / 445

وكذلك يلتذ ويفرح ويتنعَّم بمعرفة نفسه للأشياء التي تُعرف بالباطن، ويلتذ أيضًا بشهود باطنه وإحساسه، كما يلتذ بشهود ظاهره وإحساسه، وكذلك يلتذ بما تعقله نفسه من الأمور الكلية التي تعقلها، وكذلك في أفعاله وحركاته، كما يلتذ بأكله وشربه ونكاحه، وكما يلتذ برحمته وإحسانه إلى أهل الحاجات من أقاربه وغير أقاربه، ويلتذ بالجود والإعطاء، ويلتذ بالعفو عن المسيء إليه وترك معاقبة المسيء، كما يُذكر عن المأمون أنه قال: لقد حُبِّبَ إليَّ العفو حتى إني أخاف ألا أثاب عليه. فهذه مكارم الأخلاق التي تكون في بني آدم، كما كانت تكون في أهل البادية، فهذا الحس وهذه الحركة الإرادية يتنعَّم به الحي وينتفع به ويلتذ في الحال. ولا يُقال: إن فعل ذلك لغير غرض ولا لجلب منفعة أو دفع مضرة، بل فيه جلب منفعة ودفع مضرة في نفسه، كما في نفس الآكل والشارب يستجلب به منفعة الشبع، ويستدفع به مضرة الجوع، فهكذا سائر هذه الأمور يدفع بها عن نفسه مضرات، ويستجلب لها بها لذات. ولهذا يُقال: اشتفت نفسه، وشفيت صدري، فيجد شفاءً في صدره، كما يجد شفاءً في جسمه بزوال المرض وحصول العافية. وهذه أمور محسوسة بالباطن والظاهر، وهي التي أدرك حسنها من قال: إن العقل يُقبِّح ويُحسِّن ومن قال: إن العلم بحسنها لِصفة قائمةٍ بها معقولةٍ: إما بالبديهة وإما بالنظر، أو معلومة بالشرع. ولقد صدق في قوله: إن حسنها وقبحها لمعنى قام بها، وصدق أن ذلك قد يُدْرَك بالعقل وقد يدرك بالشرع. وقد غلط الأول في نفيه أن يكون ذلك لما فيه من جلب منفعة إلى العبد ودفع مضرة راجعة إلى نفسه، وإن كان ذلك في الدار الآخرة أيضًا، فإن ذلك أمر محسوس. والثاني غلط حيث اعتقد أن ذلك ليس لصفة في الفعل، وأن الحُسن والقُبح ليس إلا مجرد

1 / 446

إضافة الفعل إلى الأمر والنهي، فأصاب بعض الإصابة في كونه جعل ذلك من الملاءمة للطبع والمنافرة عنه، ومن باب كمال المتصف بذلك ونقصه، ولكن غلط في ظنه أن الحُسن والقُبح العقليين صادرَيْن عن ذلك، ولم يغلطا كل الغلط، فإن الحُسن والقبح: الذي يُدرك بالحس وبالعقل وبالشرع، وبالبصر والنظر والخبر، بالمشهور الظاهر وبالباطن، وبالمعقول القياسي وبالأمر الشرعي، هو في الأصل من جنس واحد، فإن كلًاّ يُعْلَم بذلك، يثبت به ما لا يُعلم بالآخر ويثبت به. [طرق العلم الثلاثة]: وهذه الطرق الثلاثة: السمع، والبصر، والعقل، هي طرق العلم: [١- البصر]: فالبصر - وهو المشهود الباطن والظاهر - يدرك ما في هذه الحركات والإرادات من الملاءمة والمنافرة، والمنفعة والمضرة العاجلة. [٢- السمع]: والسمع - وهو وحي الله وتنزيله - يخبر بما يقصِّر الشهود عن إدراكه من منفعة ذلك ومضرته في الدار الآخرة. فتمام الدين بالفطرة وتقديرها، لا بتحويلها وتغييرها، فإن كل مولود يولد على الفطرة، والله خلق عباده حُنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرَّمت عليهم ما أحل الله لهم، وأمرتهم أن يشركوا به ما لم ينزِّل به سلطانًا. هكذا أخبرنا الله فيما روى عنه رسوله في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم. فهم بفطرتهم يحبون الله وحده ويحبون تناول ما يحتاجون إليه من الطيِّبات، والمحبة تتبع الشهود والإحساس، فهذا الذي في فطرهم من الحس والحركة إلى عبادة خالقهم مما يعينهم عليها من طيبات الرزق، هو وجه الحُسن الثابت بالأفعال الحسنة: مأمُورِها ومبَاحِها، فإن ذلك كله حسن، لما فيه من هذه الملاءمة المناسبة والمحبة التي فطروا عليها، فما كان من ذلك مشهودًا في عالم الشهادة أدرك بالشهود والإحساس، وما كان غيبًا أدرك بالسمع الذي جاء به المرسلون.

1 / 447

[٣- العقل (القلب)]: والقلب يعقل هذا المشهود وهذا المسموع، فلا بد من أن يعقل ما أمر الله به وأخبر، كما لا بد أن يعقل ما شهدنا وحسسنا، فيعقل الشهادة والغيب، بمعنى ضبط العلم يجريان ذلك على وجه كليٍّ ثابت في النفس. لكن زَعْم أولئك أن العقل يُدرك من حسن الفعل وقبحه ما فيه ملاءَمة باطل، كما أن زعم أولئك أن الشرع يأتي بحسن أو قبح لا ملاءمة فيه باطل، فأولئك إنما نفوا ذلك لأنهم أرادوا أن يثبتوا للرب من جنس ما عقلوه في البشر، وأنكروا الملاءمة في حقه والنافرة، وهؤلاء أرادوا أن يثبتوا شرعًا محضًا مبنيًّا على محض المشيئة ليس فيه ملاءمة ولا منافرة، وكلا الفريقين أنكر حقيقة محبة الله ورضاه للأفعال الحسنة، وبغضه للمسيئين بها، وهذا هو المعنى الذي يُعبِّرون عنه في حقنا: الملاءمة والمنافرة، وإنما أُتوا من جهة ما فيهم من نوع تجهم. ولهذا أنكر أولئك - مع إنكارهم لهذه الصفات - أنكروا القدر، وهو عموم قدرته ومشيئته وخلقه، وأنكر هؤلاء ما في الشريعة من المناسبات والمحاسن التي انطوى عليها الأمر والنهي، وأنكروا أيضًا ما في خلقه ومشيئته من الحكمة والرحمة.

1 / 448

فهؤلاء أثبتوا القدرة والمشيئة والخلق، ولكن قصَّروا في إثبات الرحمة والحكمة والعدل، وأولئك أثبتوا شيئًا من الحكمة والعدل، ولكن قصَّروا في ذلك أيضًا، مع تقصيرهم في القدرة والمشيئة والخلق، وإن كان كل من الفريقين لا ينكر أمر الشرع ونهيه. لكن غلاة أولئك دفعوا بعقولهم كثيرًا مما جاء به الشرع من الأمر والنهي، وقالوا: هذا يخالف الحكمة المعقولة، كما فعل إبليس وذووه. وغلاة هؤلاء دفعوا أيضًا الأمر والنهي وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم، كما قال المشركون. وإبليس أغلظ كفرًا، ولهذا كانت بدعة أولئك أقرب إلى السنة والجماعة. وهذه الأمور التي تحبها النفوس والقلوب بفطرتها هي المعروف، والتي تبغضها هي المنكر، فإن المعرفة هي إحساس مع محبة، والإنكار إحساس مع بغضة. فأما ما لم يُحَسّ بحال فلا يُعرف ولا ينكر، وما لا يُحب ولا يبغض بحال فلا يُعْرف ولا ينكر. وإذا حُدِّث الرجل بحديث فأنكره لجهله

1 / 449