وانشروا سنة التعاون في التجارة وتدبير أسباب المعيشة، فإذا بكم قد أعدتم على الشاري فوائد الرخص والغلاء، ووقفتم الاستغلال عند حده الذي يرضاه المنتفعون بالبيع والشراء.
ولا أعزم لك أن هذا «التعاون» سيبطل كل شكاية، ويوفر كل مطلب وينصف كل محروم، فإن نظاما من النظم لن يكفل هذا «الفردوس» لبني الإنسان أبد الأبيد وآخر الزمان، ولو أنه كفله لكان وبالا عليهم؛ لأن الأمان من كل قلق مدعاة للتواكل والقنوع، ولأن الناس ما عملوا قط إلا وفي جوانحهم بعض الخوف وبعض النزوع إلى التغيير، وهب أن بعض القلق لا يفيد هذه الفائدة في حياة الأفراد والجماعات، فهل يكون القلق اليسير ثمنا كبيرا لحرية الفرد، وإطلاق المجال لسباق الهمم والآمال؟ ففي السجون يأمن السجناء على المأكل والمسكن والكساء والدواء، ولكنهم شر من الطلقاء الذين يشبعون ويجوعون، ويلبسون ويعرون، ويدبرون لأنفسهم أمر المسكن والصحة إذا احتاجوا إليها.
قال صاحبي: وهل يقبل المستغلون من ذوي الجشع وطلاب التخمة سنة التعاون!
قلت: إن سنة التعاون لا تنتظم في هذه الدنيا؛ لأن المستغنين يقبلونها أو لا يقبلونها، ولكنها تنتظم على مقدار الحاجة إليها والإيمان بها، وغلبة المصالح التي توافقها على المصالح التي تناقضها وتقف في طريقها.
وربما تهيأت في وطن ولم تتهيأ في غيره، وربما أسرعت هنا وأبطأت هناك، وربما تعرضت دونها الصعوبات حينا ولم تتعرض في حين آخر، على أنها إذا انتظمت بعد ذلك، فإنما تنتظم للدوام والتمكن والهداية كما تنتظم فضائل الرشد بعد فضائل القصور، أو أدب الرجولة الناضجة بعد أدب الطفولة الفجة، وإنك لتمنع الطفل أن يمرض وتحميه أن يؤذي نفسه بيديه، ولكنه لا يمتنع عن المرض باختياره ولا يحتمي من الأذى بنفسه إلا بعد خبرة عسيرة وتجربة طويلة، من يحرمه منها يحرمه صفوة وجوده وقوام كيانه، ولا يقال: إنه رءوف به عامل لخيره متعجل لنموه ورشاده، ولو أن الثورة الشيوعية قضت عشرين سنة في طلب التعاون والإيمان بلزومه لبلغته، ونهجت به منهجا يتقدم العمل فيه ولكان ذلك خيرا من تلك السنين العشرين، التي قضتها في المحاولة وإهدار الجهود والدماء، ثم ختمت المطاف بالعدول عنها وإقزار ما كانت تنكره وتأباه! وعلى أي شيء ختمت المطاف؟ على إقرار الملكية والاعتراف بالدين والوطنية، والسماح بالميراث وخزن الأموال وتفاوت الأجر والمعيشة، وسلب العامل حريته في الانتقال من مصنع إلى مصنع، وتحريم الاحتجاج والإضراب عليه، وقد كان يحتج ويضرب في عهد القيصرية الجائرة، فأما اليوم فلا احتجاج ولا إضراب، ولا غنى له عن بطاقة الخروج من المصنع إذا ضاق به وتحول عنه، فإن لم تكن بيده هذه البطاقة، فلا حق في بطاقة السكن، ولا بطاقة الطعام ولا بطاقة الحقوق المدنية في شيء، أو حضور جلسات! وهو حر كما يقال؛ ومن أجل حريته هذه فاضت دماء، وتقوضت مدن وضاعت أيام وأعوام!
وإنني لأوكد لك أنني لو ملكت الفصل قولا وعملا في قضية المذاهب الاجتماعية لأوجزت الحكم، وحسمت الخلاف من أوجز طريق: ألف عامل في بلاد الشيوعية وألف عامل في بلاد الديمقراطية الصناعية يتبادلون المكان خمسة أعوام، وليس يخامرني الشك طرفة عين أيهما يسرع إلى الصريخ والعويل، ويلحف بعد قليل في التبديل والتحويل.
قال صاحبي وهو يتلفت كأنما يتعوذ من شيطان يسمع ما يقول: ويح هذه القماقم الهوجاء، لقد شغلتنا وهي مغلولة مسجاة، فكيف لو انطلقت من عقالها؟
قلت: وحسنا صنعت، فما أعلم أن موضوعا في هذا العصر هو أولى بأن يشغلنا في موضوعها، وما أحسب أن الإنسانية قد احتاجت إلى التفرقة بينها وبين البهيمية منذ فارقت الغابة والكهف للمرة الأولى، كما احتاجت إليها في هذه الآونة.
ونظرت إلى صاحبي فإذا هو يضم ما بين الخنصر والبنصر، ويقول: ها نحن أولاء نقلب صفحة جديدة أو نفتح كتابا جديدا، وها نحن أولاء نتكلم بالقول الصريح وبالقول المستعار في وقت واحد، فما أبعد النقلة ما بين الخنصر والبنصر في عالم الكتب، ما أبعد النقلة بين الأرض والسماء وبين المعاش والمعاد، وبين فلسفة كارل ماركس وفلسفة ما وراء الطبيعة!
قلت: كلاهما يتصدى لعمل واحد، وهو تفسير الكون وترتيب المعاش في هذه الدنيا على هذا التفسير.
Unknown page