قال صاحبي: وهل يرتقي الناس يوما هذا المرتقى؟ وهل يرتفعون إليه في مئات السنين بل في ألوف السنين؟
قلت: إننا لم نستكثر على طبيعة الحياة أن تنقل الكلب من وحش لئيم يفترس الأطفال والغنم إلى حارس أمين يفتدي الأطفال والغنم بحياته، فلماذا تستكثر عليها أن تنقل الإنسان من حال إلى حال، وقد نقلته كما رأينا وعلمنا بين شتى الأحوال؟ أما طول العلاج يا صاحبي فهو خير من علاج سريع يتبعه موت سريع. أنسيت علاج العاطلين في مستشفى الأطباء المشعوذين؟ أنسيت علاج النازيين والفاشيين للمتبطلين؟ أعطوهم القوت أياما ليسلبوهم ويسلبوا من يعولونهم الحرية، ثم يسلبوهم جميعا أنفاس الحياة، وقد كان الجوع حينا بعد حين خيرا من الموت والفزع والاستعباد، ومهما يكن من الشك في طب النفوس، فأحق الأطباء بالشك في طبهم أولئك الذين ينشئون مذهبهم من اليأس وقلة الحيلة، ويعلمون فضائلهم باليأس وقلة الحيلة، ويحسبون أن الشر قد زال؛ لأنه محبوس وراء الأقفاص والسدود.
وكانت في صاحبي على ما يظهر عادة كثير من الناس بل عادة أكثر الناس، وهي أنهم يكرهون المرض الذي جربوه ولا يكرهون المرض الذي لم يجربوه حتى يجربوه! فيسمعون ذم الدمل الذي يقض مضاجعهم، ويعرضون عن ذم السرطان وهو بعيد منهم. فقد كان يوازن بين مساوئ الجشع والاستغلال، ومساوئ الشيوعية والحكم المطلق كما يوازن بين الوقائع والفروض. وليس السرطان الذي لم يصب به الإنسان فرضا من الفروض!
قال: ألا يجوز أن تكون عيوب الشيوعية عيوب المجال الضيق والحوض المحدود؟ ألا يمكن أن تنصلح فيها هذه العيوب إذا عمت أجزاء العالم، وشملت جميع أوطانه وشعوبه؟
قلت: بل إخال يا صاحبي أن الشيوعية في وطن واحد، أو بضعة أوطان شيء يجوز في الحسبان، أما الشيء الذي لا يجوز في حسباني فهو الشيوعية عامة شاملة بلا أوطان وبلا حدود، إذ ما العمل في تنظيم خطوط المواصلات بين أنحاء العالم؟ وما العمل في تنظيم صادراته ووارداته؟ وما العمل في تنظيم الزراعة والصناعة بين أقطاره؟ وأي حكومة هي تلك الحكومة العالمية التي تحمل وطنا من الأوطان على أن يزرع، أو يصنع لوطن غيره، وهي قد أبطلت من النفوس حوافز المصلحة الشخصية، وحوافز المصلحة الوطنية على السواء؟ وإن بقيت الحكومات المتعددة في أنحاء العالم، فعلى أي أساس تقوم الحدود والفوارق بين الأوطان؟ وعلى أي أساس من الأسس يقوم توزيع المصالح وتقسيم الأعمال؟ فربما كانت الشيوعية في الوطن الواحد حقيقة ممكنة بما فيها من العيوب والآفات، ولكنها في العالم بأسره هي ولا ريب أسطورة الأساطير.
ولو انتظمت للعالم حكومة واحدة تسوس أعماله، وتقرر منها المفيد وغير المفيد لكان هذا هو البلاء فوق كل بلاء؛ لأن هذه الحكومة قد تشل دوافع الحياة في النفوس، وهي تزعم أنها تقتلع منها الحماقة والغرور، ولو أننا رجعنا إلى تواريخ بني الإنسان لننزع منها آثار الحماقة والغرور كلها لانتزعنا نصف الحضارة الإنسانية، وذهب النصف الآخر بذهابه كما يذهب البيت كله إذا انهار نصف الجدران!
ما الولع ببناء القصور وفي الكوخ سعة لساكنيه؟ إنه حماقة وغرور.
ولكن أين كان يذهب العلم بالهندسة والعلم بمسالك البحار والأرضين، والبصر بطبائع القبائل والشعوب لولا طواف الناس في طلب الحجارة والأخشاب لبناء تلك القصور؟
ما الولع بالثناء يكذب فيه الشاعر كما كذب شاعرنا حين قال:
لو تعقل الشجر التي لاقيتها
Unknown page